ليس كالبَشر مثيلٌ في تنصّله

ريم سندي | تونس

يحتدّ صرير الأبواب، بين صحوه و الإغفاء يتحامل على نفسه ليقف على قوائمه و من شدّة الوهن يخرّ إلى سالف وضعه ممدّدا على الأرض،

 يُرهف السمع علّه يلتقط صوت مدرّبه و ما هي إلا دقائق حتى يَخلُوَ الإسطّبل من زوّاره وكلّ المقيمين، إلاّه يَقبعُ آخره مُهملاً في ركن قذر،

 آه يا برق أما آنَ لكَ أن تحْفظَ ماء وجهك و تكفّ عن العشم و الإنتظار فعهدك قد ولّى وانقضى والسنين التي كنت فيها مختالا فخورا بمجدك، أمستْ على الرفّ كحالكَ الآن،

انزلقتْ من عينه دمعة كالجمر أحرقتْ خدّه لكنه سرعان ما التهى بنشّ الذباب عن وجهه،

عاد الصرير دون موعده و استشعرَ برق من ورائه خطبا لكن أساريره انفرجتْ لصحبة طارئة قد تبدّد هول وحدته.

رفع رأسه مستطلعا فإذا “الأغرُّ” يمشي منهكًا و قائمته تلفُّها الضمائد..

تجاذبته مشاعر بين الشفقة و التشفِّي، كيف لا و هو وريثُ مشعله مذْ أقعدته لعنةُ العجز و اليوم يعوده مكمودا من ذات القدرِ.

استقر الجريح أرضه فأخذته به رأفة حتى نطق:

جئتكَ أختصرُ الطريق و لأنَّ قول التجربة غير الناطق عن الأهواء، فإنني أحميك تجرّعَ ما أصابني سلفا..

فلتعلم أن البشر ما أخذت عن الرسول في حقِّنا إلا ظاهر قوله “الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة” فتراهم يُكرمون مثوانا متى كُنَّا أشدَّاء و مِنَّا يَغْنمون و يُهملوننا على كبرٍ أو و نحن بعارض ألمَّنا

فليس كالبشر مثيلٌ في تنصُّلِه وإنه “لربِّه لكنودٌ وإنه لحب المال لشديد”

وعليه تهيأ رفيق، من عشرية قبل خَيْبَتِي، تبدّى على هيئتي أثر النبوغ و تجنَّد فريق لخدمتي حتّى اعتليت منصّات التتويج و ذاع صيتي بين أعتى الفرسان،

أصبحتُ رهانا يدُّر على مالكي ربحا ما رأتْ عَينهُ و لا سمعتْ أُذنهُ

وكان يكفيني أن أحشرَّ رأسي في صدره، أو أن يغمرني و يهمس بطيب في مسمعي حتى أنتشي و يزول كل تعبي

أجهدت نفسي و تركتُ آثارَ حوافري بكل مضمار نزلته و لأنَّ الجسد مآله الوهن مهما طغى فساعتي دقت و أُبتليت بكبوة المرض،

 ومضى مالكي يتفرَّسُ قنصهُ الآتي ….

انتبذ الأغّرُّ ركنًا يُغنيه عن نَعيقه و شلِّ عزائمه، و ودَّ لو به نَفَسًا ليُخبره  أن صورة مَقْدمه مُوشَّحًا بالنصر عقب كل سبق ما فارقته يوما، و كم هو بطل بعينه، يَفقه جيّدا كُنه مصابه و ما خلّفه العزل فيه من شرخ، لكن الإنطواء زاد تعكّرَصحّته، فبين بكائه الأطلال و إحجامه عن الأكل و الدواء انتهى جثَّة تسيل قروحها و تنبعث منها روائح العفن…

ويشهد اللّٰه كم أخلص حبَّه و خدمته حتّى أنّه خضع لساعات فضفضته دون أن يقاطعه و قد يعتلي مهَّام الواعظ فيُلقي على مسامعه ما تيسَّر من آيات أو حِكم و أقوال ليهدي بصيرته لكنّ الكآبة عشّشتْ في روحه وسريعا ما يلوي عنقه منتكسا…

تماثل الأغرّ للشفاء و أصبح قادرا على مغادرة الاسطبل و طالت أوقات فُسحه إلى أن التقط ذات مساء مؤامرة المالك و خادمه ضدّ برق إذ قررّا وضع حد لحياته و برّرا صنيعهما بأنه موت رحيم يُنجيه عذابات الكبر بعد أن شخّص البيطري حالته ضمن الميؤوس منها و عليه سيتكبَّدون ثروة لعلاجه من الأجدر أن يعود نفعها على المهاري أوّل طريقها…

سار الخادم إلى الدلو ليَسكب فيه كيسًا و يستعين بقطعة لوح لإذابة المحلول، اشتَّد هيجان الأغرِّ حتّى دلق الدلو بما فيه قبل أن يبلغه فم برقٍ

استمر الأغرّ في حيله حتى يمنع رفيقه بلوغ المياه المسمومة و دون أن يُشعره بما يُحاك ضدّه من جور، حاول إقناعه مرارا بالهرب، لكنّ برقًا اكتفى بقول يردِّده بين صحوه و الإغفاء

ليس كالبشر مثيل في تنصّله…..

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى