أحلامٌ فوق الصُّخور 

محمد حسين أبو حسين – فلسطين | سوريا

الشَّارع يغلق أقدامه الرَّاجفة. الأشجار تتمايل على جانبي الطَّريق تحجب الرُّؤية عن السُّهول الهاربة من يباسها. سعيدٌ، ابن الخامسة والعشرين ربيعًا، الذي فقد والده وهو في مقتبل العمر، وهو أكبر إخوانه الخمسة، قذفته الظُّروف لياخذ مكان والده ويتحمل هذه المسؤولية الجمَّة. تابع دراسته حتى حصل على إجازه في التَّاريخ، ليبحث بعدها عن باب رزقٍ خارج سرب اختصاصه، بعد أن فقد الأمل في الحصول على وظيفة تتفِّق وما يهوى. أفلست آماله على أعتابِ كل الأبواب وانتهى به الأمر خلف بسطة خضارٍ علِّها تقيه وأهله مرارة الحاجة والعوز في حضمِّ حياةٍ تجرَّدت من رحمتها. صعد سعيد ذات نهار في الحافلةِ  تأمَّل مجموعة من الناس كانت تجلس تحت ظلُّ الأشجار كأنهم في حفلةٍ تنكُّريَّة، لاخيار لديهم فكل الأماكن باتت بحاجة للمال ، يسرح سعيد ويتعمَّق في مشاهدة النَّاس الجالسين تحت ظلِّ الأشجار؛ “لماذا جاؤوا إلى هنا رغم انعدام بواعث الرَّاحة النفسيَّة في هذا المكان؟ أسكت يا سعيد وفكِّر بنفسك وبمستقبلك الضَّائع سلفًا. فكَّر كيف ستبني أسرةً وتكون الكتف الحانية السَّاندة لأهلك الذين وهبوك جلَّ ما يملكون لتحمل شهادتك،” يحدِّث سعيدٌ نفسه ثمَّ ما ينفكُّ يسترسل في أحلام اليقظة. “سأدعو صديقتي ياسمين لجلسةٍ هادئةٍ تحت ظلِّ هذه الأشجار، أو ربَّما لا، سأدعوها إلى المنتزه وأحاول جاهدًا ادِّخار ما أحتاجه من المال.. “.

لم تكن ياسمين أفضل حالًا من سعيد، فقد تخرَّجت من كليَّة الاقتصاد لتجعلها ظروف الحياة الجائرة سكرتيرةً عند محامٍ بليدٍ عرف برذالته واستغلاله الفاضح.

في الصباح تخرج ياسمين إلى العمل وسط جوٍّ ربيعيٍّ يلقي بظلاله على الشَّوارع. نسمات الرِّيح الهادئة تنعش الصُّدور لكنَّ صرامة الواقع المجنون كانت تحول دون ذلك. تروادها نفس فكرة سعيد؛ “لماذا لا نجلس أنا وسعيد ونحاول النَّظر من نافذة هذا الجوِّ الجميل، ثمَّ نفرغ جيوب همومنا المشتركة ؟”.

على الفور، تخرج هاتفها النقَّال وتتَّصل بسعيد لترتيب هذا اللِّقاء ليتمَّ الاتِّفاق على الخروج بعد أن تنتهي من عملها. 

سعيد الواقف خلف بسطة الخضار يستعين بأخيه الصَّغير ليحلَّ مكانه، فيما ياسمين تنتظر على قارعة الطَّريق. جلست تحت ظلِّ شجرةٍ ترقب الأقدام المرتبكة القلقة. في هذه الأثناء، وبدون سابق إنذارٍ، تقدَّمت من ياسمين امرأةٌ في الخمسين من عمرها قائلة: مرحبًا يا خالة، هل يمكنني الجلوس معك؟ 

تجيب ياسمين والابتسامة تعلو وجهها: أهلاً وسهلاً بك يا خالة، تفضِّلي. تجلس المرأة وتأخذ نفسًا عميقًا ثمَّ تبدأ بالحديث: جئت إلى هنا لأن أبني لديه مشكلة، وقد أدخل السِّجن بسبب طول لسانه. وعلى الرُّغم من حصوله على شهادةٍ علميَّةٍ مهمَّةٍ، كان قد انتهى به الأمر إلى محلٍ لبيع الفلافل.. وقد حضرت اليوم لزيارته، آه من هذه الدُّنيا كيف تدور! لا مكان للإنسان النَّظيف المتعلِّم والمحترم..

كلُّ شيءٍ تغيَّر يا خالة، حتى الأخلاق أصبحت تباع وتشترى مثل أيِّ سلعةٍ بالسوق، تقاطعها ياسمين، ثمَّ تكمل: لماذا دخل ابنك السِّجن يا خالة؟

تفرك المرأة يديها وتطلق زفرةً بحجم جبل. 

ماذا اقول لك يا خالة؟ عندما يغيب القانون والأخلاق يصبح الخطأ صوابًا والصواب خطأً، وفهمك كفاية. 

تبتسم ياسمين وتتظاهر بالمعرفة، رغم أنَّها لم تتلقى الجواب، فيما تخرج المرأة علبة حلاوةٍ من الكيس الأسود الذي بحوزتها ورغيف خبز مكسَّر، تفضلي يا خاله تناولي معي الطَّعام حتى يكون بيننا خبزٌ وحلاوة. تضحك المرأه وياسمين بصوتٍ مرتفع، بينما سعيد المنتظر في الطرف الآخر للشَّارع يبحث عن صديقته ياسمين منذ أكثر من ساعة. وفجأةً يلمحها فيهرول نحوها قائلًا: ياسمين، أنا هنا بانتظارك لأكثر من ساعةٍ وانت جالسةٌ تحت الشَّجرة تتناولين الحلاوة! تردُّ ياسمين والتَّأثُّر بادٍ على وجهها: لقد جلست مع هذه المرأة الطَّيِّبة، والتي لم تعد تجد تفسيرًا لكل ما يجري بفعل موت القانون واضمحلال الضَّمير وقسوة الحياة. لقد قضيت معها وقتاً جميلاً.

لنذهب إلى المنتزه الآن، الجوُّ يبدو رائعاً يا ياسمين. علَّق سعيد. 

أجل يا سعيد، الجوُّ جميلٌ والورد والماء أجمل هناك، لكن متى ستصبح قلوبنا جميلةً لنغيِّر هذا الواقع القاتم؟ انظر إلى تلك المرأة التى كانت تجلس معي، أجزم أنَّها تخفي وجعًا كبيرًا بحجم البحار، لو سمعت كلامها لأبصرت الجرح العميق النَّازف من بين زوايا صوتها الذي فتَّتته خيبات الحياة وصفعات القدر. لنعد يا سعيد إلى بيوتنا ولنطلق العنان لأحلامنا، فهي المنقذ لنا من هذا الطّوفان الرَّهيب الذي يحاول تدمير أرواحنا، بئس هكذا واقع لا إنسانيِّ متحجِّر. اسمع يا سعيد، إذا جلسنا سنبني من الوهم جبالًا ونختلف على شكل الشِّقة، ونحن نجاهد لنحصل على مصروفنا اليوميِّ.

أجابها: لكن يا ياسمين يجب أن نحاول عمل شيءٍ ما، لا يزال في الدَّرب أبوابٌ مقفلة تخفي خلفها وهج شمسٍ مجبولةٍ بالأمل.. أظافرنا لا تزال قويَّةً ولا شكَّ أحلامنا ستحطِّم الصُّخور ذات نهار..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى