مفاهيم ومصطلحات استعمارية.. الإرهاب (3)

إبراهيم الهمداني | باحث وشاعر من اليمن

يعد هذا المصطلح من أكثر المصطلحات إشكالا واتساما بالغموض، ومجانبة للدقة والتحديد المفاهيمي، ورغم الكثرة المفرطة للدراسات والقراءات والمقاربات التي تناولته وحاولت سبر أغواره، إلا أنها وقعت في ذات المزلق من الغموض، وانساقت وراء التمويه والمقولات المطاطية، مكتفية – في أحسن الأحوال – بمحاولة صياغة معادلة جديدة للعلاقة بين الذات العربية والأخر الغربي، في ضوء مفهوم الإرهاب، الذي تلاشت عموميته ومرونته وشموليته زمانيا ومكانيا، ليصبح أكثر خصوصية ولصوقا بالإسلام كدين ذي عمق أيديولوجي، وبالمسلمين كجماعات متطرفة إرهابية متشددة، تفتقر لمبادئ التعايش وقيم المدنية وأسس الحضارة، ومسلمات الإنسانية والوجود الإنساني، الذي لا يتحقق إلا بالمرونة والتعايش السلمي والقبول بالأخر والانفتاح عليه ومثاقفته والاندماج به وفيه، بعيدا عن التعصب للذات ورفض الأخر مطلقا، وهذا الانفتاح على الأخر والذوبان في تفاصيله، هو ما تصبو إليه الإمبريالية تحت عنوان “العولمة”، وهو أيضا أحد أهم مشاريعها في المنطقة والعالم وسنتحدث عنه لاحقا.

يمكن القول إن تمويه وتعويم مصطلح الإرهاب نتج عنه سوء فهم مقصود، أو بالأصح توجيه لعملية التلقي، وتلقين المتلقي معنى مقصودا مسبقا، خلاصته أن الإسلام هو الإرهاب والعكس، مهما كانت عمومية الدعوات المنادية بضرورة توحيد الجهود وتوقيع الاتفاقيات لمحاربة الإرهاب أينما وجد وعلى أي شكل كان.

غير أن ارتباط هذا المصطلح بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإعلان تنظيم القاعدة تبنيه لتلك الأعمال الإرهابية، ومن ثمَّ إعلان بوش الابن زعامة أمريكا الحرب على الإرهاب، ووصفها بأنها حرب مقدسة، تمتلك حق التدخل والدخول وشن الحرب في بلد من العالم دون استثناء، مردفا ذلك بمقولته الشهيرة “من لم يكن معنا فهو ضدنا”؛ وهي المقولة التي جعلت الزعماء العرب يتهافتون لمباركة هذه الحرب وتأييدها ومساندتها وفتح بلدانهم على مصراعيها لتكون ساحة مفتوحة دائماً لها، ظناً منهم أن هذا سيرضي أمريكا عنهم، وسيبقيهم على عروشهم، ويجنب بلدانهم ويلات الغضب الأمريكي، غير مدركين أنهم وضعوا أقدامهم في مسار النهاية، وأنهم قد أساءوا إلى دينهم وأوطانهم وشعوبهم، وفي حال كانت تلك مواقفهم لم يحاول أحدهم القول بأن الإرهاب ليس الإسلام كدين وليس المسلمين كجماعة، وإنما هو كل عنف مرضي يهدف إلى تحقيق الجريمة ذاتها ويسعى إلى الاستبداد ونشر الرعب، وهو كل عنف يرتكبه شخص أو جماعة أو دولة بدون مبرر أو وجه حق، كان هذا القول – على الأقل – سيضع مصطلح الإرهاب في مساره الصحيح.

لكن ما حدث هو العكس تماماً، حيث حاول كل واحد منهم نفي صفة الإرهاب عن شخصه وحزبه وتياره، موجهاً أصابع الاتهام إلى غريمه التقليدي وخصمه السياسي، فالسلطة تتقرب إلى أمريكا بالمعارضة والمعارضة تتهم السلطة وتحضر الأدلة والبراهين، مناشدة عدل وإنسانية البيت الأبيض، وفي خضم هذا الهوس والصراع السياسي، لم يقل إن القاعدة صنيعة أمريكية بامتياز، وإنها البطل الورقي في رواية الاستعمار، وإنها اليد الطولىٰ للإمبريالية في المنطقة، وإنها لا تمثل الإسلام ولا تمت إليه بصلة، وحين توجهت الأنظار نحو الجانب التوعوي التثقيفي حول الإرهاب، عقدت مئات الندوات والفعاليات والنقاشات حول مخاطر الإرهاب والتعصب والتشدد وضرورة محاربته ومواجهته، ومهما كانت تحاول نفي صفة الإرهاب عن الدين الإسلامي إلا أنها كانت تثبتها من الجانب الآخر، وبدلاً من وضع الإرهاب فكراً وسلوكاً في مساره العام، الذي يجرم كل من قام أو اتَّصف به، وبدلاً من وضع تنظيم القاعدة المتطرف في موضعه الخارج عن الإسلام المارق عن روحه السمحة وتعاليمه الغراء، وإعلان براءة الإسلام والمسلمين منه، وأنه يمثل الفكر الوهابي /اليهودي المتعصب، الذي اتخذ من الإسلام غطاءً لمشروعه الهدام بحق الإسلام والمسلمين.

وهكذا أصبحت الحرب على الإرهاب ذريعة أمريكا المثلىٰ لاحتلال وتدمير البلدان العربية والإسلامية بشرعية إلهية وموافقة عالمية، ليس لأحد الرجوع عنها أو مخالفتها أو رفضها، وانطلاقاً من حق الوصاية والأبوية الأمريكية، التي رافقها الصمت والخنوع العربي الإسلامي، بسطت أمريكا نفوذها وهيمنتها على شعوب العالم والشعوب العربية والإسلامية بالذات، وتم التعاطي مع الإسلام بوصفه دين الإرهاب، الذي يحرض أتباعه على إعمال السيف في مخاليفهم في كل الأحوال، وتم وصف المقاومة – بما هي فعل تحرير وبناء وحق مشروع – بالإرهاب والعنف، وأصبح كل ما يهدد مصالح أمريكا وإسرائيل في المنطقة هو إرهاب، ويجب على العالم محاربته.

لم تتوقف حرب أمريكا على الإرهاب في أفغانستان وتنظيم القاعدة وأسامة بن لادن، بل تعدت ذلك لتصل إلى العراق وسوريا وليبيا واليمن وتونس وغيرها، وما لم يحققه التدخل المباشر والغزو العسكري، أُوكل إلى  الربيع العربي إتمامه، لتلعب دور البطل هذه المرة الجماعات المتأسلمة بفكرها ذي الأصول الماسونية وزيها الإسلامي وحقدهم الدفين على الآخر المخالف لهم مذهبيا، ولكنهم سرعان ما فشلوا في تطبيق مشروعهم، ليخدموا أمريكا بذلك الفشل، ويتسنى لها شن حملتها المعادية ضد الدين الإسلامي، بوصفه – حسب الزعم الأمريكي – دين إرهاب وانتقام وعداء مطلق للآخر، ولا يصلح لبناء حضارة أو مجتمع مدني يتعايش مع الآخر، وبهذا رأت أمريكا ضرورة القضاء عليهم، بعد أن أدوا الدور الذي أُنيط بهم ووصلت الرسالة المبتغاة.

بعد ذلك أرادت أمريكا تقوية حجتها والتركيز على الإسلام الفوضوي الهدام، فأوعزت إلى داعش – الوجه الآخر للقاعدة – بإتمام المهمة، ولعب دور البطل المقاوم للأنظمة العربية الحاكمة، الساعية إلى إقامة خلافة اسلامية، غير تلك المعروفة في الوجدان الجمعي العربي بشموليتها، وإنما خلافة إسلامية على مقياس الأطماع والمصالح الإمبريالية في المنطقة المحددة جغرافيا بالعراق والشام، ويؤكد ذلك ظهور إسرائيل بكل قبح وصلف إلى جانب هذه الجماعات مؤيدة ومباركة ومساندة لهم في حروبهم العبثية ضد أوطانهم، وبهذه الحالة من الفوضى العبثية العارمة التي غرقت المنطقة في أتونها، استطاعت القوى الاستعمارية – أمريكا وإسرائيل – البدء في تنفيذ مشاريعها، وإدارة هذه الفوضى الهدامة بما يخدم مصالحها، تحت عنوان نظرية الفوضى أو الفوضى الخلاقة.

إذا كانت المقاومة ضد المستعمر إرهابا يُمارس على مستوى الفرد والجماعة، فماذا نسمي الإرهاب المنظم والمنهجي والقتل والتدمير والتنكيل والقمع الذي يمارسه الكيان الصهيوني – كدولة – بحق أبناء الشعب الفلسطيني؟!

وإذا كان ما ستتعرض له مصالح أمريكا وإسرائيل في المنطقة من تهديد افتراضي مزعوم إرهابا، ففي أي سياق إرهابي وإجرامي يمكن تصنيف جرائم تحالف العدوان – الصهيوأمريكي وأتباعه في المنطقة – العالمي على اليمن، وأي توصيف قانوني يمكنه بلوغ مئات المجازر بحق المدنيين الأبرياء وبحق الطفولة المستباحة، وماذا تسمى الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدوان بحق ثلاثين مليون إنسان، من خلال الحصار المطبق برا وبحرا وجوا، ونشر الأمراض والأوبئة، واستخدام الأسلحة الفتاكة بجميع أنواعها؟!

هل آن الأوان لتعرف شعوب العالم الحر من يمثل الإرهاب الحقيقي، وأن تعود للإسلام صورته الناصعة وحقيقته المحمدية وليس الوهابية..  ترى هل ستبلغ أصواتنا أسماعهم؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى