النقد والدوائر المغلقة.. اللفظة الشعرية (3)

مصطفى سليمان | سوريا

في المقالة الفائتة دخلنا دائرة الوحدة العضوية في القصيدة. واليوم دائرة اللفظة الشعرية؛ لنكتشف الدوران في فلك المفاهيم الواحدة، قديماً وحديثا،ً مع اختلاف الصياغات فقط. وقد يكون تطابق خواطر مشتركة، أو استلهام، أو استيحاء… أو اختلاساً وسرقة خفية أحياناً.

نتساءل: هل هناك لفظ شعري وآخر غير شعري في البنية اللغوية للقصيدة؟. لا بد في البدء من التفريق بين اللفظ، واللفظة الشعرية، واللغة الشعرية .

فاللفظ المعجمي كائن لغوي مفرد بذاته، له معنى معجمي صامت الدلالة، أو دلالته ذات بعد واحد .

واللفظة الشعرية هي إمكانية تمتُّع اللفظ المعجمي ذي البعد الواحد بأبعاد إيحائية ذات دلالات معنوية مشحونة بانفعالات خاصة وأحاسيس جمالية لم تكن ضمن المتن المعجمي؛ وذلك بإبداع الشاعر في تركيبها في سياق فني خاص.

وأما اللغة الشعرية أو الشاعرة فهي اللغة الكليّة الحيوية ذات الأطياف المتماوجة الألوان والظلال، والتي تشكل (قصيدة ثانية) في نسيج القصيدة المبدعة. يقول أدونيس: ” في كل قصيدة عظيمة، قصيدة ثانية هي اللغة “.

لكنها اللغة المركّبة من أبعاد تتوالد من أبعاد، وليس اللغة المسطَّحة .

تناول عبد القاهر الجرجاني قضية اللفظة من خلال (نظرية النظم) الرائعة. فاللفظة تكتسب جودتها أو رداءتها من خلال اتساقها ضمن الصياغة الفنية مما يمنحها شعرية خاصة، فليس هناك مفردة شعرية بذاتها بمعزل عن سياقها.

ويكاد ابن الأثير في (المثل السائر)- وهو بعد الجرجاني- أن يكون ناقداً معاصراً :

” اعلم أن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها لأن التركيب أعسر وأشق، ومما يشهد لذلك أنك ترى اللفظة تروقك في كلام، ثم تراها في كلام آخر فتكرهها…أريد أن تكون الألفاظ مسبوكة سبكاً غريباً يظن السامع أنها في غير ما في أيدي الناس، وهي مما في أيدي الناس ، وهو شبيه بالذي يقول إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، فلفظه هو الذي يُستعمَل، ولكن سبكه وتركيبه هو الغريب العجيب ” .

والغريب العجيب والأعجب أن ترى هذا التطابق أو التشابه عند ناقد وشاعر عالمي هو (ت . س . إليوت)، ففي مقالته (موسيقا الشعر) لا يرى في اللفظة المفردة، وبمجرد صوتها، قبحاً أو جمالاً. فاللفظ الجميل هو الذي يلائم السياق، والقبيح هو الذي لا يلائم السياق، وجماله ينشأ من علاقته بالألفاظ التي تسبقه مباشرة، والتي تتلوه ضمن سياق الموقف الكلي… ويجب أن يكون بين لغة الشاعر ولغة الحديث في عصره ما يجعل سامعه أو قارئه يقول: هكذا كنت أتحدث لو استطعت أن أتحدث شعراً !.

عد واقرأ الجرجاني وأدونيس وابن الأثير، وتأمل واستنتج! إنه تلاقي الفكر النقدي عند نقادنا، وكبار شعراء ونقاد الغرب.

طبعاً من البلاهة أن نقول إن (إليوت) استوحى رأيه من ناقد عربي قديم أو معاصر. لكن كما قال العرب قديماً: قد ينطبق الخاطر على الخاطر كما ينطبق الحافر على الحافر. فهذه أفكار مشتركة بين العقول والمفاهيم أحياناً. ولنتذكر أن نقادنا ورواد شعرنا الحديث تأثروا كثيراً بالشاعر والناقد توماس إليوت، نقداً وشعراً. إلى جانب تراثنا النقدي الشعري القديم.

وها هوذا زكي مبارك يقول: ” إن الكلمات تأخذ قوتها من السياق، وإن الكلمة القبيحة قد تصبح وهي في غاية الجمال إذا وَجَبها مقتضى الحال “. ويستشهد بلفظة (وحْل) بدل (طين) في قصيدة له :

مضيتِ إلى غيري جهاراً وخنتِني فمن أي وحْلٍ صيغ طبعُك خبّريني؟

وأخيراً أختتم بما قاله د. عبد القادر القط مدافعاً عن الشاعر الذي يستخدم ألفاظاً مبتذلة سوقية، كما تبدو لقارئ الشعر المعتاد على اللفظ الشعري الرصين الرزين:

” الفرق بين الشاعر القديم والحديث أن الأول يتجنب مثل تلك الألفاظ في حين يرى الثاني أنه ليس هناك شيء اسمه اللفظة الشعرية…فالحكم على شاعرية كلمة لا يكون بمقدار دورانها في الشعر التقليدي، بل بمقتضى قدرتها على التعبير عن إحساس الشاعر واتساقها مع بناء العبارة الشعرية بأكملها “.

أرأيت التشابه، وأحياناً التطابق، بين الصياغات الزئبقية للأفكار والمعاني ذاتها، وكيف تدور في دوائر النقد المغلقة؟ فإلى دائرة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى