حكايا من القرايا.. ” الزيت يشرشر “

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

قبل سنوات وسنوات… كنت في الصف الأول إعدادي، أبدأ صباحي في المشي ثلاثة كيلو مترات… صعوداً وهبوطا،ً صيفاً وشتاءً… لأصل إلى مدرستي في البلدة المجاورة… ولم أكن الطالب الوحيد في ذاك الزمان… بل كان مثلي العشرات، يعلقون أكياس الكتب القماشية في رقابهم… وعلى أكتافهم…  وربما حمل أحدهم كتاباً يراجع فيه معلومات قبل الامتحان، وهو متوجه إلى المدرسة.

ذاك الزمان – وكما أسماه الشهيد غسان كنفاني – كان زمن الاشتباك، وفي زمن الاشتباك، كان الفقر ضارباً أطنابه، ومتجذراً حتى في أعماق الوعي… ولم يكن ولي الأمر يعترف – في تلك الفترة – بمصروف مدرسي لابنه، وكأن المصروف محرّم… لذا كانت مواسم التين في أيلول وبدايات تشرين، واللوز الأخضر في الربيع، والتوت في أيار، والمشمش في نهاية العام الدراسي، مواسم تسدّ جوع (المقريّة) طلاب المدارس المسافرين لبلدة أخرى طلباً للعلم والمعرفة… حيث كان الطلبة يلقون أكياسهم على الأرض، و(يتورشعون) الأشجار كالغنم السمار…

لكن تاج هذه المواسم كلها… هو موسم الزيتون… عندما كان يحمل الواحد فينا رغيف الطابون الساخن، المقلوع حديثاً من قحف الطابون… يتناوله عن صينية الخبيز، يضعه بين كتبه في الكيس القماشي، وينطلق به في رحلته التعليمية… وقبل الوصول إلى المدرسة بقليل، ندخل عصّارة الزيتون… مجموعة من العقود القديمة، فيها حجران كبيران يدوران، كأنهما حجرا ساقية… يطحنان الزيتون، قبل إرساله في قفف إلى المكبس، كي يطل الزيت من الفرّازة فغيشاً تبرياً حرّاقاً لاذعاً.

نناول (البرّاك) الرغيف، ويضعه تحت مزراب زيت الفرّازة… يأخذ البرّاك منه لقمة، من منطلق التذوق، ويرجع باقي الرغيف يشرشر زيتاً من كل جانب… ولا ينسى صاحب الزيت، أن يقول لحامل نعمة الله ” ألف صحة وعافية” ونجيبه ” الله يطرح لك البركة يا عم…” نأكل الرغيف المبلول بالزيت، وننسى أننا ذاهبون إلى المدرسة… وأن الزيت يشرشر على البنطال الكاكي… ويترك بقعاً – ما شاء الله – سرعان ما تتمدد… أوقفني معلم وأنا في الطابور الصباحي، واستجوبني بخصوص تلك البقع التي ارتسمت في ثيابي كأنها خرائط… تلعثمت… وأجبت أنصاف عبارات… فوبّخني… ومنها صرت أرجىء (غتّ الرغيف بالزيت) إلى وقت الترويحة من المدرسة… والعودة إلى البيت.

والشيء بالشيء يذكر… أمس بينما كنت عائداً من جنين… وعند محطة عرابة، أوقفت سيارتي واشتريت خبزاً عربياً مشروحاً ساخناً من فرن رائع هناك، خبزاً أشبه بخبز الطابون… وقبل أن أصل سيلة الظهر، أوقفت سيارتي… ودخلت عصّارة الزيتون برغيفين اثنين… وضع البرّاك الرغيف الأول تحت مزراب الزيت… وأهديته الرغيف الثاني كاملاً… وأخذت رغيفي المشرشر… وتذوقت فيه حلاوة الذكرى… ولذوعة طعم الزيت، ورغم الاحتياطات كلها… إلا أن الزيت أبى إلا أن تتمركز بعض نقاطه على بنطالي… كما كان يتمركز وأنا في الصف الأول الإعدادي… برأيكم: هل هناك توبيخ ينتظرني؟ ربما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى