سرير  يوسف هيكل.. قصة فصيرة

شوقية عروق منصور | فلسطين

بقايا حديد زحف الصدأ عليه بوحشية .. القشرة الذهبية التي كانت تكلل أطراف السرير تحولت إلى قشرة مغموسة بسواد الهروب نحو البدايات .هناك بصمات غير مرئية ، مساحات من الصدى تغسل الذاكرة ، تمر عبر خنادق محفورة تحت ظهر الخروج من الحياة … 

العجوز الجالس أمام الشاب الذي يقطع الحديد إلى قطع صغيرة كي يستطيع نقلها بسيارته يحاول ثنيه وإبعاده، لكن الشاب لا يسمع، ويستمر في التقطيع.. صوت المطرقة يفتح نوافذ على فضاء المرارة، شقوق الجدران تتسع، تكبر .. ذاكرته ترتبك وتتورم وتحاول التملص من هدير الماضي .. 

” شبيك لبيك ” شعر أن هذه العبارة تنحني وتقدم له خدماتها الخيالية.. تتناثر الصور المتعبة من الرحيل الزمني ..دكاكين مفتوحة.. مشرعة بطريقة فوضوية.. قدم مع صديقه إلى مدينة يافا كي يشتري سريراً من “سوق الأثاث المستعمل” المزروع بالدكاكين التي تعرض الأثاث بطريقة الخبث التجاري، الجديد، اللامع، المزخرف في الواجهة.. مرايا الخزائن التي تحتضن الوجوه والقامات تحاول جر الزبائن، هناك من ينهي نشيد الإعجاب بالابتعاد وهناك من يدخل ويبدأ المساومة…خطواته تتمهل، بعينين من زجاج مملوء بالانبهار ، يدخل مع صديقه الى الدكان ..” يهمس ” احنا مش عايشين “

رد عليه صديقه … 

“بكره بتعيش لما بتشتري السرير..”

غمزه صديقه غمزة، فهم منها أن الانبهار هو خيط الاستغلال للتاجر… حيث يبدأ بشده حتى يدفع الزبون الى الشراء … يده تلمس الخشب المدهون بإتقان وحرص، أكثر شيء يعجبه ذلك اللمعان المدلل، تشعر أن الذي قام بتلميع القطع إنسان استسلم لموجة عشق حتى توحد مع القطعة وعزف مقطوعة البريق العذري …

مدينة يافا تنحني على شاطىء البحر .. أول مره يزورها.. سمع عنها من والده الذي حارب فيها، ولكن عندما سقطت بأيدي اليهود، رجع والده الى قريته ودفن البارودة في ساحة الدار تحت شجرة الزيتون .. ومن سخرية الأقدار أن أحد المتعاونين مع السلطة أبلغهم عن بارودة والده، وقد سجن ثلاثة أشهر وخرج من السجن بعد أن سلم البارودة، لقد رافقه عدد من رجال الشرطة إلى ساحة الدار، حيث بقي يحفر تحت شجرة الزيتون حتى أخرج البارودة من قبرها … رأى والده ابتسامة أحد رجال الشرطة وهي تشرق بالفوز من تحت شاربه الكث .. وعندما تكلم باللغه العربيه قائلاً : 

“عفاريم عليك كان لازم من زمان تسلم الباروده “..

أيقن من لهجة هذا الشرطي أنه عربي من منطقة قريبة فشعر بتأنيب الضمير وبأشواك فوق وسادته .. من يومها لم يعرف والده النوم .. طوال الوقت وحزنه ينوح بعبارات غير مفهومه، يغضب ، يثرثر ، ويغطس في غيبوبة أطلق عليها الطبيب بعد ذلك ” الخرف ” مع إنه كان يخالف الطبيب ويؤكد له أن والده يملك ذاكرة فولاذية، إنه يتذكر شوارع وطرقات ووجوه وأسماء شهداء وقادة ومعارك وأنواع أسلحة ودبابات … أحياناً يخرج من الغيبوبة ليقول له: … روح شوف البارودة بعدها هناك!!!.

تخترق كلمات والده جلده فيتصبب عرقاً، خاصةً إذا كان إلى جانبه أحد أصدقائه، لأنه يرى لمحات الاتهام بالجنون تطوق وتزين تقاسيم وجه صديقه..فيحاول تبرير السؤال عن البارودة .. أبوه مصدوم من نتيجة الحرب .

السيجارة أصدق رفيق لوالده المصدوم.. و رغم سعاله الذي يصل رذاذه حتى آخر الحارة إلا أنه مصمم على أن الخيانات العربية علمته أن أفضل وسيلة للنسيان هو الدخان، مع كل سعلة يخرج من صدره الأوهام التي كانت تقوده إلى الشعور بالفخر الكاذب . 

ما زال يتنقل مع صديقه الذي قام بجره إلى سوق يافا .. أو كما أطلقوا عليه أيضاً ” سوق الرابش ” الذي يحوي الأثاث المسروق من البيوت اليافاوية .. يشير صديقه بإصبعه إلى كلمة مكتوبة على حافة إحدى الخزائن .. “لمياء” .. هذا خط أنثوي .. اسم امرأة أرادت أن تخلد اسمها قبل الرحيل فكتبته ليبقى صامداً أمام الزمن، قد يكون خط رجل كتب اسم حبيبته قبل موته في إحدى المعارك ..انظر .. قال صديقه باستغراب ..

– رغم الدهان واللمعان ما زال الاسم واضحاً ، يطل كعصفور محاصر ..

تقدم التاجر اليهما .. الآن هما الصيد الثمين .. أخذ يعدد أنواع الاخشاب وميزة كل نوع.. وكيف ينطوي ويتعرج وينفتح ويحتضن الزخرفات التي تتوج الخزائن والأسرة والكراسي والطاولات، أراد أن يختصر طريق التاجر ويبعثر قائمة الإغراء . 

– من أين لكم هذا الأثاث؟

خيم صمت بارد .. خانت العبارات لسان التاجر .. ثم عادت صوب الكذب ممشوقة وبخفة متمرس أردف ..

– أنا بشتري من التجار… لا أعرف ” خبيبي ” ، من وين ..!!

ملح يختم الشفاه … يندس صديقه في غابة الأثاث ويشير إلى سرير عريض، مذهب، على قوائمه الأربعة تقف كرات ذهبية تنشر في الأجواء فراشات وغزلان وكثبان من الشهوة .

صديقه يتظاهر بالتردد، لكن مخلب الإعجاب قد خدشه ، لقد ظهر على صوته ونظراته … اخذه الى زاوية في الدكان …

– هذا أجمل سرير رأيته في حياتي .. لو كنت مكانك ما ترددت في الشراء ولو على جثتي ..

– لكن يا زلمي من ساعة ما عرفت إن الاثاث مسروق من بيوت يافا وأنا بدني مقشعر وشاعر إني رح انتق … الحق عليك ليش ما قلتلي إن الأثاث من البيوت .. أنت قلت من ” سوق الرابش ” فكرت إن اليهود جابوا الأثاث معهم لما إجو من برا وقاعدين ببعوه …

انزلقت يد الصديق على كتفه ، هزه … !!

– اترك مشاعرك على جنب.. الجمعة اللي جاي عرسك وأنت حلفت تنام على سرير وتكون عروستك غير شكل عن كل العرايس ..يلا اشتري بلا وجع راس …

حاول طرد صور البيوت المفتوحة عنوةً .. السلب والنهب، وأصحاب البيوت الذين فروا هاربين ولم يفكروا سوى بارواحهم..!!

– قديش حقه …؟؟

ـ- مئة ليرة … اجاب التاجر وهو يمسك بالكرة الذهبية الملتصقة بعامود السرير، والتي ظهر بعد ذلك أن عليها رسومات وآيات قرانية .

ولو … مئة ليره !! هدا حق عشر دونمات !!!  هتف متراجعاً خوفاً من مشنقة هذا التاجر …

يا خبيبي .. أنت لا تعرف بالأثاث، هذا سرير يوسف هيكل !!!

يوسف هيكل .. يوسف هيكل …

ما بتعرفوا … اللي كان رئيس بلدية يافا …

هذا التاجر ” الوسخ ” يلعب بأعصابه، لقد وضعه في قفص ويريد ان يهز له ذيله طرباً .. اشتهى مرةً أن يحمل” شبريةً” كي يطعن من يضايقه أو يستفزه ، كان والده يفتش ثيابه قائلاً لوالدته …

–  هذا الولد طايش راح يوقعني بمصيبة ..

صديقه في وادٍ آخر ..يريد اقناعه بأي وسيلة ..

ــ معك مئة ليرة . ..

ــ معاي بس لازم اشتري ملبس وشراب وشقف قماش لفساتين امي وخواتي وعماتي الاربعة وخالاتي السته ، كل وحده كتبت قديش بدها قياس الشقفة ..

– ولك يا مجنون ، حدا بصحلوا ينام على سرير “يوسف هيكل” حتى لو حقوا ميتين .. انا لو محلك باشتريه والشقف والملبس والشراب بعدين بنشتريهن.. ملحوق عليهن.. هاي فرصه ما بتتعوض .. 

الفتور والغرور .. حطت ذبابة فوق انفه ، ازاحها بقسوة حيث راح الفتور وبقي الغرور … سينام على سرير ” يوسف هيكل ” .. تخيل نفسه فوق السرير وعروسه إلى جانبه تتمطى بجسمها البض … سيشتريه ولو شنقه والده …

– تحميل السرير ضمن البيعة .. اراد ان يطمئن لأنه لا يملك ثمن استئجار سيارة للتحميل ….

ـ- علينا … علينا … أكد التاجر وابتسامة النصر تلوح فوق وجهه …

” ابن العاهره ” بكم اشتراه حتى يبيعه بمئة ليره ، قال اشتراه … لازم يقول ” سرقه الحرامي هو و اللي زيه ” …

عندما دفع للتاجر المئة ليرة وادار ظهره شعر ان التاجر يقهقه بغدرٍ .. لقد بعتهم بضاعتهم …

اصبح حديث القرية لعدة سنوات ..ـ اشترى سرير بمئة ليرة .. هو والعروس ما بسووا ليرة ..!!

بقولوا انه ابوه صابوا مرض لما عرف ابنه اشترى سرير بمئة ليرة . 

امه فرحت وقالت : حدا بصحلوا ينام على سرير يوسف هيكل اللي كان مالك يافا …

اهل العروس اعتبروا ابنتهم محظوظة اول عروس في البلد بتنام على سرير .. كانت ” الفرشة والطراحة ” حلم كل فتاه .. لكن ابنتهم رفعت رؤوسهم راح تنام على سرير ” يوسف هيكل ” 

اصدقاء العريس تنهدوا …

– ولك من اول غزواتك ” سرير يوسف هيكل “!!!!

وعندما انجب ابنه البكر اطلق عليه اسم يوسف تيمناً ” بيوسف هيكل ” وكانت دائماً غرفته محط انظار الزائرين لأبيه .. فغرفته الموجودة في بيت ابيه اصبحت ” كعبة ” اهالي القرية .. يأتون ليحسسوا على قضبان السرير وعلى الكرات المذهبة التي ادهشتهم صناعتها .. واخذوا ينسجون الحكايات والقصص عن بطولات وصولات وجولات يوسف هيكل … حتى أكدوا ان للسرير رائحة خاصة .

قالوا : ما زالت رائحة ” يوسف هيكل ” العطره تنبعثُ من الحديد . 

حتى اصبح احياناً يشعر ان ” يوسف هيكل ” ينام معهم في الغرفه ويلاحق خطواتهم ….

ولم يتخل عن السرير رغم السنوات الطويلة ووفاة زوجته ..

صوت المطرقه يوقظه .. السرير تحول الى كومةٍ من القطع الصغيرة . 

ابنه ينظر اليه ويبتسم ابتسامه استفزازية ، تنضح بنعنع الاستخفاف .. 

– اهلين ” ابو هيكل “….

دمعة اختبأت ولم تنزل .. 

– طيب يابا علشان صاحبك ” ابو هيكل ” راح اخليلك هدول … 

وناوله أربع كرات ذهبية اللون ، حيث ما زال الدهان الذهبي متوهجاً ….


هامش:

+ يوسف هيكل آخر رئيس لبلدية يافا وقد استلم رئاسة البلدية سنة 1945 ــ 1948 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى