على نجمةٍ عابرةٍ

معين شلبية | فلسطين

 

على نجمةٍ عابرةٍ فوقَ سُطوحِ المدينَةِ

عُدْتُ وحيداً فِي المساءِ الفسيحِ

لأَجْمَعَ ما بَعْثَرَتْهُ الرِّياحُ مِنْ ذكرياتِي المُثْخَنَة.

لا ظلَّ يترُكُنِي مُذْ وُلِدْتُ فِيْ هذا المكانِ

ولا الشَّمسُ تَهْزِمُنِي فِي الزَّحامِ

لكنَّ أَلْسِنَةَ الدُّخَانِ كانتْ تنضِّدُ هذا الفضاءَ

وتأْخُذُني إِلى عَتْمِ الأَزمِنَة.

قلتُ فِيْ نَفْسي ارْتَقِبْ ريثما نُنْهِي حديثاً قد صَدِئ

لَعَلَّ طقساً مِنْ “جَلْوَةِ العِرْفانِ” يُجدي

فِيْ هذا المدَى الدُّرِّيِّ للتَّذكارِ والنِّسيان

يوقظُ الجمالَ مِنْ ضَجَرِ المعاني واهتراءِ الأَمكِنَة.

مضَى هجيعٌ مِنَ اللَّيلِ ولم يأْزَفِ انتظاري

الجهاتُ مُحْكَمَةُ الإِغلاقِ فِيْ مُتناوَلِ القلبَينِ أَو أَقرب

وكلَّما فكَّرتُ بالأَملِ الشَّريدِ

أَنهكني الأَلمُ والانحصار

وأَجهرَ ما تبطَّنَ مِنْ ظُهوري أَو خَفاي

لكنِّي سأَمشِي فوقَ نعشِي وإِنْ ضلَّ الطَّريقُ خُطاي.

مصابيحُ خافتةٌ تَهْطُلُ الآنَ منها الحُروفُ

شلَّالَ ضبابٍ أُرجوانيَّ الخطوطِ

تقصو وتدنو فِيْ نَوْئِهَا والحُضُور

تتدلَّى كخيوطٍ مِنْ سناءٍ على أَرصفَةِ الموتِ

ولا موتَ يُعيدُني إِلى ما كنتُ

فِيْ أَشراءِ هذا الكون

فالمجازاتُ حائِرةٌ باستعاراتِهَا

والمعاني بليغةٌ بحطامِهَا

وأَنا دلاليُّ الحداثَةِ والجُذور.

هاكَ إِذنْ يا غريبُ!

الجرحُ مُسْتَدْرَجٌ للنُّورِ المستفيضِ

فلا تَكُ الذَّاتَ الَّتي كُنْتَهَا

لا اليقينُ يُرْجَى ولا الشَّكُّ يُجْزَى ولا السَّرائِرُ تُفْشَى

وإِنَّما بنعمةِ الحقِّ تُؤْتَى آلهةُ الشِّعرِ مِنْ آنٍ لآن

تَرتدي الجِناسَ والطِّباقَ فِيْ أَروقَةِ السَّديمِ

تَشُبُّ نارٌ فِي الأَديمِ لإِيلافِ هذا العَدَم

عُزلةً عُزلةً.. كأَنَّكَ لم تكنْ إِلاَّ هناكَ

فلا أَحدٌ هنا يَراكَ ولا أَحَدٌ هنالِكَ فِي انحسارِكَ

بينَ موتِكَ وانبعاثِكَ.

وجاسَ نَيْطُ الموتِ خِلالَ الدِّيارِ

وسَعَى إِلى سِرِّ البَقاءِ يُفَكِّرُ مِثْلَ جَلجامِشَ

بأَعشابِ الخلودِ

وسَرَتْ خُطايَ على خُطَاهُ؛

أَنكيدو.. وا قناعَ الموتِ أَنكيدو..

أُوروكُ ضاعتْ وضاعتْ شجرةُ الأَكاسِيَا

وضاعَ مِنْ قبلُ الدَّليلُ

تَمُّوزُ غابَ وغابَتِ الأَصواتُ وانثنَى جِذْعُ الصَّدَى

فَبِأَيِّ حالٍ عُدْتَ أَيا جَلجامِشُ.. بأَيِّ حالٍ عُدْتَ؟

عَشْتارُ، لا عُشْبَ الخُلودِ أَعادَها

ولَا خضَّهَا سَقْفُ الرَّدى

أَنكيدو لم ينتظرْكَ لا، ولم ينتظرْ أَحدا

أَنكيدو لم يَعُدْ كما ذَهَبَ.

أَمَّا أَنا فعُدتُ بكلِّ أَسبابِ الحنينِ

فوقَ جوادِيَ المكسورِ بصولجانِ العالمِ السُّفليِّ

حيثُ لا مبنى هنالِكَ ولا معانٍ

جَلجامِشُ لا تَعُدْ أَبَدَا

إِلَّا بما حَمَلَتْ رؤَاكَ مِنَ الغريزةِ والرُّؤَى

جَلجامِشُ لم يَعُدْ أَبَدَا.

وما بينَ نظرةٍ وحسرةٍ

وعلى مذبحِ الدَّهشةِ والنَّشوةِ والذُّهولِ

هوَتِ الذِّكرياتُ فِيْ مهبِّ التَّهاوي

وأَنا أَلوبُ كحبَّةِ المطرِ الحزينَة

أَنتظرُ البداهَةَ والبديهَةَ

فيما تؤَلِّبُهُ المطارحُ والوُقُوت

أَستلهِمُ السُّبُحاتِ فِي المُلكِ والملكوتِ

والعِزَّةِ والجبروتِ

فأَسأَلُ:

هل أَنتَ الوحيُ أَمِ الإِيهام؟

كانتِ الأَمطارُ تَغْسِلُ قرابيني الَّتي

ما بَرِحَتْ تحفظُ الذِّكرَى

تاركةً فوقَ صحراءِ هذا الصَّقيعِ سراباً مِنْ مَعين

يُكَدِّسُ قبلَ رحيلِ الفَواتِ لميلادِ نهارٍ مات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى