لحظات مع ديوان الشّاعر خالد الشّوملي (نهر وضفاف)

أ‌. محمد موسى العويسات|  القدس

خالد يعقوب شومليّ شاعر فلسطينيّ من بيت ساحور، وديوانه هذا يعدّ الدّيوان الثّامن، وقد عنونه بـ (نهر وضفاف) ووصفه بأنّه قصائد مختارة وأرّخ لها: 2008ـــ 2018، وأشار إلى أنّ الدّيوان مطبوع في ألمانيا، والنّاشر عام 2018 دار النّشر: كان يا ما كان. ويقع الدّيوان في 225 صفحة ويحوي ستين قصيدةً مختارة، وتتراوح القصائد بين غرضين رئيسين هما الهمّ الوطنيّ والعربيّ، وتحتها يندرج معان وتفاصيل كثيرة وطنيّة وقوميّة وإنسانيّة، والغرض الثّاني في الغزل والحبّ ومعاناة الفراق والهجران وغيرها. وقد رتبّ الدّيوان بحسب هذين الغرضين فكانت القصائد الوطنيّة أول ما بدئ بها الدّيوان، وبدا من خلالها الشّاعر ملتزما صاحب قضيّة يحمل همّ الوطن، ويشتاق إليه، ويأبى التآمر عليه، ولا يفارقه الأمل بالنّصر والتّحرير وعودة الحقّ لأهله، وعاش في قصائدة وبعاطفة صادقة دوائر الانتماء التي عاشها كلّ الشّعراء الملتزمين فكانت الدّائرة الأوسع هي الدّائرة القوميّة، فأنشد للشّام والعراق واليمن، وخصّ مصر بقصيدة تؤرّخ ثورتها لإسقاط النّظّام السّابق، ثمّ كانت الدّائرة الوطنيّة لفلسطين والقدس، ثمّ كانت الدّائرة الأضيق في شوقه والتزامه هي مدينته بيت ساحور، يقول:
لي وطن لا يغيب عن نظري/ أعيشه وهو فيَّ مغتربُ (ص12)
وفي القدس يقول:
إن كنت ترجو الجنان يا إنسُ / أول درب السّماء هي القدسُ (ص13)
يرفض البعد عن الوطن فيقول:
حين تكتمل الجريمة بين أشواك الهزيمة/ حين ينكرك الصّديق ثلاث مرّات
ويهجرك الأحبّة قبل موعدهم / ويغريك الجنون بجنّة المنفى
لترحل أو تساوم / كن نخيلا في بلادك / كن نخيلا في بلادك.
ويقول في مسقط رأسه بيت ساحور في قصيدة يا بدرُ ودّعني:
واحمل حنين النّهر نحو مصبّه / وانثر رحيقي في بلاد الشّامِ
سلّم على حقل الرّعاة وأهله / واكسر رغيف الخبز مع أعمامي
إلى أن يقول:
ما زال جرح الأرض ينزف من دمي/ فاضغط عليه بقوة الإبهامِ
امسح دموع القدس في عليائها/ بشذا النّدى بَلْسِمْ ثراها الدّامي (ص40)
وفي قصيدة ما قيمة الدّنيا نجد الشّاعر يعوّل على الشّعوب في التّغيير، فيقول:
نهر الشّعوب يسير في ثقة/ فوق السّدود وسادة العجب
تلك الطّحالب سوف يجرفها/ لا فرق عند الموت في الرّتبِ
وفي القصيدة نفسها ينتقد من وعدوا بتحرير القدس:
أو لم يقولوا سوف نرجعكم / ويحاك ثوب القدس بالقصب
حتّى صداهم لا يصدّقُهم/ والشّعب ضاق بلعبة الخطب (ص50)
والشّاعر في شعره هذا يملؤه الأمل ولا يعرف اليأس طريقا إلى نفسه:
ربّ جرح غاص في الأرض عميقا/ ثمّ شبّ الورد يسقيه الغمامُ (ص47)
ويحسن الشّاعر ويجيد ربط قضيّة فلسطين بما يجري في العالم العربيّ، فيعدّ الجرح واحدا، يقول:
تتهاوى الآن أشرعتي في عراق المجد واليمن
ودموع القدس هادرة فوق خدّ العالم الخشنِ
وجروح الشّام بئر أسى ترتدي ثوبا من الحزن (ص69)
أمّا الغرض الثاني الذي خاضه الشّاعر في أغلب قصائده، وجاء في التّرتيب الثّاني في الدّيوان فهو الحبّ والغزل في حلّة رومانسيّة تمزج بين الهوى ومعاناة البعد والهجر وذكريات الوصل من جهة، وعناصر الطّبيعة المختلفة من ماء وشجر ونهر وبحر ونبع وزهر وشذا وشمس وقمر وليل وفجر من جهة أخرى، فجاء بمشاعر ومعان إنسانيّة راقية، يكاد يغيب فيها جسد المرأة والوصف الحسّيّ، يقول:
ما أجمل الحبّ حين نتفقُ / فالبحر منها ولي أنا الغرقُ (ص132)
ويقول:
أنا لا أحبّ البحر إلا لأنّه/ شبيه بعينيها يجود ويكتمُ (ص146)
ويقول:
كلّ النّساء على فؤادي حرّمت / إلا ابتساماتها فخيرُ مُحلَّلِ (177)
وكان الشّاعر في كثير من قصائده حريصا على (الحكمة) وكأنّه متأثّر بالقدماء في هذا، وقد جاء بالحكمة على هيئة تأمّل فيه قراءة فلسفيّة لطيفة، من مثل قوله:
إن كنت تبحث عن نياشين العلى/فالعلم والأخلاق خير وسام
إنّ الحياة مواقف وبطولة/ ما قيس عمر المرء بالأرقامِ
لا يحرز الأمجادَ إلا فارس/ لبّى النداء بعزمه المقدامِ (ص40)
ويقول:
وادي المحبّة كلّه أشجار/ ثمر القناعة حكمة ووقار
لم تنعم في جبل الغرور شجيرة/ إلا وحطّم جذعَها إعصار (ص80)
ومن الأبيات التي تتّخذ مثلا قوله:
وإذا الخيول تعثّرت بخيالها / سيفوز حقّا بالسّباق حمار
يقول في قصيدة بكلّ لغات الكون:
وكم من درّة في البحر يُجهل سرّها/ وموج بمنفاخ الرّياح يُضخّمُ
ومن يضرب العلياءَ سهما كأنّه/على نفسه يرمي الحصاةَ ويرجمُ (ص144)
وممّا يلاحظ أنّ الشّاعر يكثر في قصائده، وبخاصّة في شعره الرّومانسيّ، من ذكر الشّعر والقصيد، ويتّخذ منه صورا فنّيّة، ويجعل من الشّعر والحبّ شيئا واحدا، بل يرى أحدهما يستدعي الآخر، يقول:
نهر الغرام قصيدة إيقاعها / متسارع متدافع دفّاقُ (ص109)
ما أرشق الشّعرَ البديع! فإنّه/ ضوء الصّباح يدغدغ الأهدابا (ص136)
إذا أبدع الإنسان شعرا وحكمة / فإنّ الصّدى من نفسه يتنغّمُ (ص142)
هو الشّعر عنواني وأنت قصيدتي/ وما أجمل الأشعار إذ بك تحكم (147)
أجمل ما في القصيد أصدقه / وأروع الشّعر فيه أعمقه (ص150)
ولي كلّ يوم في القصيدة موعد / تجيء وأحيانا تغيب وتعنُدُ (ص160)
أمّا من النّاحية الفنّيّة فنجد الشّاعر قد أجاد الاستهلال في قصائده وأحسن التخلّص، ومن أمثلة ذلك قوله في قصيدة (هذي نجوم اللّيل) مفتتحا:
هذي نجوم الليل أم دمعي/ إنّ العيون تذوب كالشّمع (ص82)
وقوله مختتما متخلّصا في قصيدة (في حكمة اللّيل):
هذي القصيدة لن تعانق ظلّها / إلا إذا ضحكت لها الأنوار (ص81)
ويميل الشّاعر إلى المحسّنات البديعيّة، كالجناس والطّباق، وغيرها، ويبدو في هذا متأثّرا بشعراء البديع القدماء، ومن التّجنيس قوله:
اللّيل مطلعها وآخرها الضّحى/ وإلى البديع من البعيد يشار (ص80)
وقوله (وفيه تورية أيضا):
إن مرّ عذّبه/ والمرّ أعذبه
وقد جاء التّجنيس في بعض المواقع متكلَّفا ثقيلا، كقوله:
قد كان يمكن/ أن يكون الكون/ أجمل ما يكون (ص178)
وقوله:
إنّ الذين تحبّهم ذهبُ/ يا ليتهم ظلّوا وما ذهبوا
وهبوك ما وهبوا/ ولم يهبوا (ص 187)
ويبدو الشّاعر في بعض قصائده متأثّرا موسيقيّا ببعض القصائد القديمة، أو أنّه يميل إلى المعارضة، وذلك كما في قصيدته التي مطلعها:
إنّ الذي بيننا أعلى من السّحبِ / وفوق كلّ قصيد قال في الكتبِ (167)
إذ يبدو فيها متأثّرا أو معارضا لقصيدة أبي تمام: (السّيف أصدق إنباء من الكتب)
أمّا قصيدة (على يد الحبّ) والتي مطلعها:
على يد الحبّ بالتّأكيد مصرعه/ لكنّه فرح لا شيء يفزعُهُ
فيبدو فيها معارضا لابن زريق البغداديّ في قصيدته اليتيمة:
لا تعذليه فإنّ العذل يولعهُ قد قلت حقّا ولكن ليس يسمعه
وهكذا نكون أمام شاعر قد تأثّر بالشّعراء القدماء ليس تضمينا فحسب، كما في قوله:
وقد قال قبلي شاعر متنبّئا/ “إذا أكرمت اللّئيم” ستندمُ (ص145)، بل أيضا في المعارضة الصّريحة في أكثر من قصيدة.
وقد يؤخذ على الدّيوان المحاولات المتكرّرة لجعل قصائد الشّعر العموديّ مجزّأة على هيئة شعر التّفعيلة فيجعلُ البيت أسطرا، فعلى سبيل المثال:
(لا تسرع الخطو / فالأخطاء مسرعة ) هذا شطر واحد جعل سطرين، ثمّ جاء شطره الثّاني غير مجزّأ : ( فكم بريء من العشّاق قد دُهسا). والشّطران على بحر البسيط. (ص172)
ومنه أيضا أن جزّأ البيت الآتي إلى أربعة أجزاء وهو بيت على بحر الكامل:
يا كلّ هذا الحبّ/ كيف تَحَمُّلي / من غير قلب/ مفعم بك مُثمَلِ (174)
وربّما لا يكون عليه ضير لو تناسق هذا في كلّ القصيدة، لكنّننا نجده قد سطّر بعض الأبيات وجاء بأخرى أبياتا مشطّرة على شكل الشّعر العمودي، فوقع اللّبس هل القصيدة من شعر التّفعيلة أم من الشّعر العموديّ؟!.
أمّا العنوان (نهر وضفاف) فلم يكن عنوانا لقصيدة في الدّيوان، كما جرت عادة أصحاب الدّواوين في تسمية دواوينهم باسم قصيدة مفضّلة لديهم، بل جاء وصفا يستكشف منه مضامين القصائد الواردة فيه، وفي أقلّ قراءة ودون عناء يجد القارئ المتمعّن أنّ هناك كلمات في الدّيوان لا تكاد تخلو منها قصيدة تقريبا، منها النّهر والبحر والنّبعة، فقد أكثر من ذكرهما الشّاعر، وقد يكون السرّ في ذلك النّزعة الرّومانسيّة التي تسيطر على الشّاعر، إذ تراه متعلّقا بكل المظاهر الطبيعيّة في الكون، يتأمّلها ويستوحي منها صوره الشّعريّة، ويخلع عليها مشاعره. يقول:
وتسير ضدّ النّهر أغنية / حتى تلامس جوهر النّبع (ص83)
ويقول:
يغادرني عمري ليكمل بحرها/ كأنّ جسدي نهر وروحي منبعُ (ص118)

وهكذا نكون أمام شاعر مجيد في نمطي الشّعر التّفعيلة والعموديّ، ملتزم بقضيّته، جاءنا بشعر في لغة سهلة سلسة، بعيدة عن تعقيد الصّورة، ووحشيّة اللّغة، تأثّر بالشّعر القديم في نواح كثيرة فأبدع شعرا حديثا جميلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى