عبق المولد النبوي الشريف

الشاعر العُماني يونس البوسعيدي

 

لا أعرفُ لماذا تعود الدنيا للوراء وتبهتُ الألوان، وكأن الدنيا خلتْ من الطفولة… كان المولد النبوي يأتي وتستشعرُ طعمه، وتشمّ عبقه من مجامر اللبان التي تتراقص كالصوفية، وتسيح مع ابتهالاته وتبتّلاته من تلاوات المولد النبوي المُحبّر عن العلامة الولي أبي مسلم البهلاني أو عن البرزنجي.

يتناهى إلى شغافي من ضباب الذكريات جدّي القاضي محمد بن علي الشرياني رحمه الله، وقد حلّ المغرب وقضوا صلاته جماعةً، وتجمهرتِ الناس في حِلقٍ متأهبين متشوقين لسماع السيرة العطرة لسيد البشرية والخلق مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبدأ جدّي الشرياني رحمه الله بصوته الناموسيّ الرنان في الذاكرة و الضلوع يتلوا تلك السيرة، لم تكن طفولتنا يومها تعرف شيئا عن علم الجرح والتعديل وتصحيح المرويات وهل شابها من الحب شيءٌ أم شوهها من الإسرائيليات تدليسٌ ماكر، كانت طفولتنا متماهية مع تلك اللحى البيض التي جاءت الليلة لمجلس الشرياني بخناجرها والبعض ببشته ولم تسافر مكانًا، ولكن براق الخيال يرحل بها زمانيًا للعهد النبوي، وكأن ذلك البراق يمنحنا رحلة مجانية تخترق القوانين الفيزيائية والنظرية النسبية، فنكون بصوت الشرياني وبرائحة اللبان الظفاري من تلك المجامر، نكون بين بطحاء أم القرى مكة المحروسة مسافرين في الركب النبوي للأقصى طهره الله لنرتفع ونسمق في الصهوة البراقية مع سيد البشرية لحد سدرة المنتهى، ونقابل معه في رحلته الأنبياء المطهرين الذين التقاهم، وفي سبحات تلك الرحلة لم يتجرأ الخيال أن يرسم صورة شمسية للنبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، وإنما تعود بعدها لأسرّتنا نقرأ سورة الكوثر ألف مرة مصدقين الحكايات التي تختم حفلة المولد النبوي الشريف أنه من قرأها الف مرة رُزق رؤيته عليه الصلاة والسلام في المنام، وتنغمض الجفون ولا نعلم كم مرة قرأنا الكوثر، ونصبحُ ورنين صوت الشرياني والبخور الظفاري في خلجاتنا، وهو يقطع الزمن ليعود لي وكأني دخلتُ فتحةً في سديم عقيقيّ اللون رأيتهم مصطفين في حلقاتهم وسمتهم ورأيتُني لا أريد الرجوع عنهم ولساني يُتمتم بغُنة طويلة “صلّى الله عليه وسلم”.

بعد حوالي ثلاثين عاماً لا أجد من احتفالات المولد النبوي غير التهاني والتبريكات الباردة في رسائل الواتسأب، بردتْ الجذوة بمساطر التحقيقات العلمية بين الجواز وعدم الجواز، وجدل الابتداع أو تهذيب النشء، وسلك أطفالنا على أناشيد القنوات التلفزيونية التي لا أظنها قادرة على غرس حميمية اللحظات المباركة، وكأن كل هذا سيكون اليباس في الأمّة التي فيما بعد سيُتطاول على نبيّها في أقصى الأرض، ولن تحرّك ساكناً، بينما العِلم الإلهي ردّ عنه أبدا وسرمدا بقوله تعالى (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) صدق الله العظيم، في إيضاح وتعديل فهم لحاجة الأمّة البشرية لنبيّها، وليس حاجة النبيّ لأمّته.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أبارك لأمتي المسلمة والبشرية ذكرى مولد سيد الخلق محمد – صلى الله عليه وسلم – في زمنٍ وهنتْ أُمّته حين تركت الشريعة المحمدية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى