نوران في بيت السيدة نفيسة رضي الله عنها

د. محمود رمضان | أكاديمي مصري

 

سلام من الله على آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم السيدة نفيسة، رضي الله عنها وأرضاها، التقية، النقية، الطاهرة، المباركة، الحبيبة، العابدة، الزاهدة، الورعة، الكريمة، العظيمة، صاحبة الكرامات، من أولياء الله الذين قيل فيهم: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، هم أولياء الله الذين والوا ربهم بالطاعة والمحبة، فوالاهم الله بالرضا والكرامة.

 قال فيها الشاعر:

يادرة البيت الكريم وبدر آل أبي الحسن

صلى عليكم ربنا عند الفرائض والسنن

وقل السلام عليك يا فيض العطايا والمنن

أنتم أمان الخائفين من كل إنس وجن

أنتم أمان العالمين من كل إنس وجن

بمقام جدك أكرمينا وارفعي عنا الحزن

لما شرفت بنور وجهك في المنام وفي الوسن

وعلمت أن الخير عندك في رحابك مختزن

ناديت: يا أمي غريب جئت ألتمس السكن

والفضل مولاتي لديك وعند بابك مرتكن

رددت: إن أنت ابني لا تخش البلايا والفتن  

جدي وجدك حصننا نعم الحماية والمنن

وأنا لها فاسعد ومن يأتي إلينا يطمئن

السيدة نفيسة رضي الله عنها وأرضاها، ولدت في ربيع الأول 145 هـ – وانتقلت إلى دار البقاء في رمضان 208 هـ، هي حفيدة حفيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأمها زينب بنت الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان الحسن الأنور يجلس بجوار الكعبة المشرفة، وجاءته البشري بمولودته، فرفع يديه داعيا الله: اللهم انبتها نباتًا حسنًا، وتقبلها قبولا حسنًا طيبًا، واجعلها من عبادك الصالحين، وأوليائك المقرّبين الذين تحبهم، ويحبونك، اللهم اجعلها معدن الفضل، ومنبع الخير، ومصدر البرّ، ومشرق الهداية والنور، اللهم اجعلها نفيسة العلم، عظيمة الحلم، جليلة القدر، قوية الدين، كاملة اليقين.

وعند البشرى أيضًا بمولد السيدة نفيسة قدم رسول الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وترجّل عن فرسه، ثم دخل المسجد الحرام، وشقّ الصفوف حتى وصل إلى الحسن الأنور، ثم أخرج من جعبته كتابًا، ورفع إليه مع هذا الكتاب هدية الخلافة، وكانت عبارة عن كيس كبير يحتوي على عشرين ألف دينار، وكان الكتاب يفوح منه رائحة المسك والعطر والطيب، ففتحه الشيخ، وقرأه في تؤدة وأناة، وكان القوم حوله وجلون، فشاهدوا الحسن الأنور يبكي، فسألوه عن فحوى كتاب الخليفة، فقال لهم وهو يبكي: لقد وُلّيت المدينة المنورة، واختارني الخليفة أميرًا عليها، وإذا كانت تلك الإمارة نعمة من الله علينا وعلى الناس كانت تلك الوليدة بشيرها، وإذا كانت الإمارة كرامة لنا فإن الوليدة الجديدة رسولها.

وعندما بلغت الخامسة انتقل بها أبوها إلى المدينة المنورة بنور النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت تذهب إلى المسجد النبوي وتحضر دروس العلم، فحفظت القرآن الكريم وهي في الثامنة، وأخذت علوم الفقه والحديث عن كبار علماء المسجد وشيوخه الأجلاء، وعلى رأسهم الإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه.

 كما التقت الفقهاء وكبار العلماء والزهاد، منهم بشر بن الحارث المعروف بالحافي، وإمام أهل السنة الورِع أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي، وعبد الله بن الحكم، وأبي سعيد سحنون بن سعيد الفقيه المالكي، والربيع بن سليمان المرادي من أصحاب الشافعي، والربيع الجيزي، وغيرهم كثير، حتى لقبها أهلها وذووها بنفيسة العلم، واشتهرت بجمال خلقها ودينها وورعها وعبادتها.

وكانت رضي الله عنها مُجابة الدعوة، أظمأت نهارها بالصيام، وأقامت ليلها بالقيام، عرفت الحق فوقفت عنده والتزمت به، وعرفت الباطل فأنكرته واجتنبته، واجتهدت بالعبادة حتى أكرمها الله بكرامات عديدة.

وعندما بلغت نفيسة العلم وكريمة الدارين سن الزواج، رغب فيها شباب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني الحسن والحسين رضي الله عنهما، كما تهافت لخطبتها الكثير من شباب أشراف قريش لما عرفوا من خيرها وبرّها وإيمانها وتقواها، وكان أشدهم حرصًا عليها إسحاق بن جعفر الصادق، وهو الذي كان يُلقّب بين أقرانه ويُعرف بين الناس بإسحاق المؤتمن، لأمانته وقوة إيمانه ودينه.

ولم يكن هذا الشاب بغريب عنها، فهو ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزواجه منها قصة، فلقد رأى إسحاق الناس يخطبون السيدة نفيسة من أبيها الحسن الأنور، ومنهم العلماء الأفاضل، والعباد الأعلام، وكان أبوها إذا سأله الناس عن سبب رفضه لهم قال: «إني أريد أن أؤدي الأمانة إلى أهلها، وأردّ القطرة إلى بحرها، وأغرس الوردة في بستانها»، فإذا سمع الناس منه ذلك أمسكوا عن الكلام، وقالوا: لعلّ في الأمر سرًا لا ندركه ولا ندريه.

لكن إسحاق رأى أن يطلب الزواج بالسيدة نفيسة، فاستخار الله تعالى، وذهب إلى عمه ومعه كبار أهل البيت، فرحّب بهم الحسن ضيوفًا كرامًا، لكنه امتنع عن تزويج السيدة نفيسة لإسحاق، فانصرفوا من عنده يعتصر الألم قلوبهم لأن إسحاق لا يُردّ.

قام إسحاق من عند الحسن، وفي نفسه حزن كبير، وذهب إلى المسجد النبوي، ووقف في محرابه الميمون، وأخذ يصلي، فلمّا فرغ دخل الحجرة النبوية، ووقف عند القبر الشريف، وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وحبيب رب العالمين، إني أبثك لوعتي، وأنزل بك حاجتي، وأعرض عليك حاجتي، ولطالما استغاث بك الملهوفون، واستنجد بعونك المكروبون، فقد خطبت نفيسة من عمي الحسن فأباها عليّ.

فلما كان الصباح بعث إليه الحسن، فقال له: لقد رأيت الليلة جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة يُسلّم عليّ ويقول لي: يا حسن زوّج نفيسة ابنتك من إسحاق المؤتمن.

 فتمّ زواجها يوم الجمعة في الأول من شهر رجب سنة إحدى وستين ومائة للهجرة، وبزواجهما اجتمع في بيتها نوران، نور الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، فالسيدة نفيسة جدها الإمام الحسن، وإسحاق المؤتمن جده الإمام الحسين رضي الله عنهما.

وكان للسيدة نفيسة مكانة في قلوب المسلمين عامة، والمصريين خاصة، وكان أهل مصر يلتقونها في موسم الحج، ويسألونها زيارتهم في بلدهم لكثرة ما سمعوا عن فضلها وعلمها، فكانت ترحب بدعوتهم وتقول لهم: سأزور بلادكم إن شاء الله، فإن الله قد أثنى على مصر وذكرها في كتابه الكريم، وقد أوصى جدي بأهلها خيرًا فقال: إن فتحتم مصرًا فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لكم فيها صهرًا ونسبًا.

وتقلبت الأحوال بآل البيت، وعُزل ولدها الحسن الأنور عن ولاية المدينة، بعد وشاية بن أبي ذئب، وساءت الأحوال، وكثرت الفتن، واضطربت الأمور بين آل البيت في الانتقال إلى مكان آخر غير المدينة، رغم أنها عزيزة عليهم، فعقدوا العزم على الانتقال إلى مصر، وكانت سبقتهم إليها في زمن سابق السيدة الطاهرة زينب بنت الإمام علي شقيقة الحسن والحسين وبنت فاطمة الزهراء عليهم رضوان الله، وحفيدة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.

رحّب المصريون بأهل البيت وعلى رأسهم السيدة نفيسة وزوجها إسحاق وابناها القاسم وأم كلثوم وغيرهم من أبناء آل البيت، وتسابقوا في تكريمهم، وتنافسوا في استضافتهم، فحظي بهذا الشرف جمال الدين بن الجصاص، فأنزلهم في داره، وجاءها العلماء والفقهاء يأخذون عنها العلم، ومنهم الإمام الشافعي، رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يجلس منها مجلس التلميذ من الأستاذ.

وكان عامة الشعب يفدون إلى مجلس علمها، حتى ضاق البيت بما رحب، فأمر لها الحاكم بدار واسعة، فلما شكت عدم خلوها إلى ربها، اتفق الجميع على أن تخصص لهم يومي السبت والأربعاء من كل أسبوع لمجالس العلم، والخمسة أيام لخلوتها مع ربها.

ومع أن السيدة نفيسة نشأت في بيت أبيها يحيط بها مظاهر الترف، إلا أنها آثرت الزهد والتقشف، فكانت قليلة الأكل، ويروى أنها كات تأكل كل ثلاثة أيام مرة.

وقالت زينب بنت أخيها: خدمتُ عمتي السيدة نفيسة أربعين عامًا فما رأيتها نامت بليل، ولا أفطرت إلا العيدين وأيام التشريق، فقلت لها: أما ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبات لا يقطعهن إلا الفائزون.

وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه إذا مرض يرسل لها رسولا من عنده، كالربيع الجيزي أو الربيع المرادي، فيقرئها سلامه، ويقول لها: إن ابن عمك الشافعي مريض، ويسألك الدعاء، فتدعو له، فلا يرجع إليه رسوله إلا وقد عوفي من مرضه.

فلمّا مرض الشافعي مرضه الأخير، أرسل لها على عادته رسوله يسألها الدعاء له، فقالت لرسوله: متّعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم (أي ذاته الكريم في الآخرة).

وقال زوجها إسحاق المؤتمن يومًا لها: ارحلي بنا إلى الحجاز، فقالت: لا أفعل ذلك، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي: لا ترحلي من مصر فإن الله تبارك وتعالى متوفيك فيها.

وأصاب السيدة نفيسة المرض في شهر رجب سنة مائتين وثمان للهجرة وظل المرض يشتدّ ويقوى حتى رمضان، فبلغ المرض أقصاه، وأقعدها عن الحركة، فأحضروا لها الطبيب فأمرها بالفطر، فقالت: واعجباه، إن لي ثلاثين سنة وأنا أسأل الله أن يتوفاني وأنا صائمة، أفأفطر؟ معاذ الله، وكان وراء ستار لها قبر محفور، فأشارت إليه وقالت: هذا قبري، وها هنا أُدفن إن شاء الله، فإذا متُّ فأدخلوني فيها، فلمّا فاضت روحها الطاهرة الشريفة دفنت في قبرها الذي حفرته بيدها، وكانت قد ختمت فيه القرآن الكريم مئات المرات.

وقد عزم زوجها إسحاق بن جعفر على حملها إلى المدينة ليدفنها هناك، فسأله المصريون بقاءها عندهم، وقيل إن زوجها لم يرض، لكنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام في منامه وهو يقول له: (يا إسحق لا تعارض أهل مصر في نفيسة، فإنّ الرحمة تنزل عليهم ببركتها)، فدُفنها في مسجدها الشهير.

ومما يروي عن السيدة نفيسة رضي الله عنها وأرضاها، أن الأمراء كانوا يعرفون قدرها، حتى أن أحد الأمراء قبض أعوانه على رجل من العامة ليعذبوه، فبينما هو سائر معهم، مرّ بدار السيدة نفيسة فصاح مستجيرًا بها، فدعت له بالخلاص قائلة: حجب الله عنك أبصار الظالمين، ولما وصل الأعوان بالرجل بين يدي الأمير، قالوا له: إنه مرّ بالسيدة نفيسة فاستجار بها وسألها الدعاء فدعت له بخلاصه، فقال الأمير: أبلغ من ظلمي هذا يا رب، إني تائب إليك وأستغفرك؛ وصرف الأمير الرجل، ثم جمع ماله وتصدق ببعضه على الفقراء والمساكين.

وذكر القرماني في تاريخه أن السيدة نفيسة، رضي الله عنها، قادت ثورة الناس على ابن طولون لمّا استغاثوا بها من ظلمه، وكتبت ورقة، فلما علمت بمرور موكبه خرجت إليه، فلما رآها نزل عن فرسه، فأعطته الرقعة التي كتبتها، وفيها: ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم ففسقتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفاذة غير مخطئة لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، ويقول القرماني: فعدل من بعدها ابن طولون لوقته.

 ويقول المؤرخ الإسلامي الشيخ عبد الوهاب الشعراني، رضى الله تعالى عنه: إن أرواح الأنبياء وأرواح الكمل باقية على الخدمة في عالم البرزخ وإن لله عز وجل بفضله بكل قبور الأنبياء وأولياء الله الصالحين ملائكة يقضون حوائج السائلين خصوصا بيوت الأنبياء وأولياء الله لأن أهل البيت هم أهل الكرم والعطاء.

ومن أقوال السيدة نفيسة:

في أمور تكون أو لا تكون، سهرت أعين ونامت عيون

والذي قد كفاك ما كان بالأمس، سيكفيك في غد ما يكون

رحم الله سيدتنا نفيسة العلم رحمة واسعة، وأسكنها الدرجات العلا من الجنة مع جدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وجعلنا من زوار مقامها الشريف، ننهل من بركاتها ونفحاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى