المسلمون في أزمة

نهاد أبو غوش | فلسطين

أخطأ الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون في تصريحه أن “الإسلام في أزمة”، فقد دفع ذلك التصريح العناصر الانتهازية والمتسلقة، وصيادي الفرص، والمصطادين في المستنقعات والمياه العكرة إلى الإيحاء أن ماكرون يقصد الإيمان والعقائد الإسلامية، فهذه مسائل تتعلق بقناعات الناس ويصعب البرهنة عليها أو إقناع الجميع بها، ولو تحدث أحدهم فقال إن الإسلام في أزمة مشيرا إلى تعدد وتنافر الاجتهادات الفقهية والتصورات الإيمانية للمذاهب والفرق المختلفة، لأمكن القول بكل سهولة أن المسيحية في أزمة وكذلك البوذية والهندوسية واليهودية وكل الأديان بشكل عام، سواء الأديان الإبراهيمية التي نسميها السماوية، أو الأديان التي هي أقرب لطريقة العيش فضلا عن الأديان الروحانية ومختلف أنواع العبادات، والدليل على ذلك هو تشتت هذه الأديان والمذاهب، وانفضاض معتنقيها عنها، والبون الشاسع بين القيم الروحانية والأخلاقية لهذه الأديان وبين السلوك الفعلي لمعتنقيها من البشر.

أما لو قال ماكرون أو غيره أن “المسلمين في أزمة” لاتفق معظم المسلمين معه، بمن في ذلك مشايخهم ودعاتهم، ولنكتفِ بتعداد المعايير الموضوعية والعلمية التي تؤكد أزمة الشعوب الإسلامية ومنها التخلف الاقتصادي والتبعية، وتراجع جميع مؤشرات التنمية البشرية من معدلات الدخل، ومؤشرات التعليم والصحة، وتدهور الحريات العامة، وارتفاع مستويات البطالة والفقر والأمية وانتشار الأمراض والأوبئة، وشيوع الفساد والاستبداد في معظم الدول المسماة “إسلامية” أو تضم نسبة كبيرة من المسلمين، وكثرة الصراعات الداخلية والحروب الأهلية، وقمع الأقليات القومية والدينية، وأخيرا وليس آخرا تفريخ “الإرهاب” بشكله الدموي والعبثي البعيد عن أي مشروعية وتصديره إلى العالم اجمع.

ومن المشكلات التي يواجهها المسلمون، ويتكرر وقوعها بين وقت وآخر، اقتناع عدد كبير منهم، وبخاصة من قياداتهم ودعاتهم، أن ثمة مؤامرة كونية على الإسلام، يشترك فيها الأميركان والروس، الرأسماليون والشيوعيون، المسيحيون واليهود والهندوس والبوذيون، تتخذ أحيانا تعبيرات رمزية مثل كتاب سلمان رشدي “آيات شيطانية”، أو الرسوم الدنمركية، أو مجلة “شارل ايبيدو”، وأخيرا تصريحات الرئيس الفرنسي. وفي أحيان أخرى تتخذ المؤامرة شكل الحروب مثل حرب الشيشان، وأفغانستان، والروهينجا، ومسلمي الإيجور في الصين.

ويجري تضخيم هذه الأحداث والتركيز على البعد الديني بحيث يكون المسلمون هم الضحايا، وإهمال العناصر غير الدينية في القضية، مع إهمال وجود أمثلة معاكسة، مثل اضطهاد المسيحيين في باكستان، والمذابح التي ارتكبت ضدهم في العراق وسوريا، أو انحياز الولايات المتحدة للمجاهدين الأفغان ضد روسيا، ولمسلمي كوسوفو ضد الصرب، وتدخل إسرائيل لمصلحة أذربيجان ضد أرمينيا.

من المؤكد أن قوى اجتماعية وسياسية محلية، القوى المسيطرة وأدواتها في كل بلد، وحتى على مستوى إقليمي، تتخذ من هذه الأحداث ذريعة ووسيلة لحرف اهتمام الناس عن قضاياهم المحلية، وعن القضايا التي يمكن لحراكهم أن يؤثر فيها، وقد باتت هذه وسيلة مجربة لدى هذه القوى المسيطرة لشحن الناس وتوجيه اهتمامهم وغضبهم نحو عدو تتيحه الصدفة مثل شارل ايبيدو، أو سلمان رشدي أو ماكرون، حيث لا يمكن فعل شيء عمليا ضد قائمة الأعداء المفتعلة هذه. في حين كان يمكن لحراك الناس وغضبها أن يؤثر على قضاياها المباشرة والملموسة، وحتى أن يؤثر على قضية التطبيع بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل.

ليس الدين وحده هو الذي يمكن أن يحرف انتباه الناس وطاقة الغضب المخزنة لديها عن مسار التأثير في الأحداث، فقد أمكن لأحداث مشابهة جرى التجييش لها أن فعلت فعلا مماثلا، كمباراة كرة القدم الشهيرة بين مصر والجزائر.

لكن الدين يظل أسهل تناولا وأكثر استخداما نظرا لسهولة ذلك، ووجود مؤسسات دينية وأهلية وأحزاب جاهزة للانخراط في العملية، وجمهور جرى تجهيله وصياغة وعيه على فرضية أن ثمة مؤامرة كونية على دينه وإيمانه، كما أن ثمة جيوشا من الرسميين والصحفيين والإعلاميين والمثقفين ومرشحي الانتخابات وانتهازيي الأحزاب، جاهزة للإسهام في المجهود الحربي.

اللافت في حملات التجييش والتحريض التي تنشط لعدة أيام أو أسابيع ثم لا تلبث أن تنطفئ، أنها تتركز في المدن والأوساط الأشد فقرا ومعاناة – ولعل في ذلك دليلا إضافيا على أنها موجهة ومسيّرة- فهي أكثر ما تنتشر في دول مثل بنغلادش وباكستان والدول الأكثر فقرا، والدول التي تعاني من صراعات دينية وطائفية كنيجيريا، بينما لا نكاد نجدها في دول متقدمة صناعيا واقتصاديا مثل ماليزيا، ولا في الدول ذات الدخل العالي مثل الإمارات وقطر والكويت والسعودية، بل لا نجدها في تركيا التي يتزعم رئيسها حملة التجييش والتحريض، ربما لأن القائمين على الاقتصاد التركي لا يجدون في هذه المظاهرات والحراكات سوى مضيعة للوقت.

كل من دفع إلى حملات التحريض ساهم في ترسيخ أزمة المسلمين، وبناء مزيد من جدران وأسوار القطيعة مع العالم. المظاهرات الصاخبة، والأيدي المهددة المتوعدة وبعضها يحمل السيوف والعصي، والحناجر الصارخة الغاضبة المتوعدة، والوجود المرعدة والمتشنجة، وحرق الصور والمجسمات والتهديد بفتح باريس ردا على الإساءات المزعومة للنبي محمد، كلها ساهمت في تقديم خلفية تتناسب مع عمليات قطع الرؤوس، لتثبت أن المسلمين فعلا في أزمة خلقها زعماؤهم وقادتهم ورؤساؤهم الذين ما زالوا يعتاشون على هذه الأزمة ويرفضون نداءات الحداثة والتقدم والتنوير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى