إشكالية الإعلام السياسي: معنى الاِزْدِوَاج في مبنى الاِعْوِجَاج!

د. آصال أبسال |  أكاديمية وإعلامية تونسية – كوبنهاغن

إشارةً إلى ما ذُكر في مستهلِّ المقال السابق «إشكالية الإعلام السياسي: النفاق والرياء من الألف إلى الياء!»، إشارةً إلى أن مفردة «الاستقلال» بالذات، في السياق التوصيفي «السياسي» الذي تدَّعيه بكلِّ فخارٍ و«وقارٍ» مشهوراتُ الصحف العربية، كمثل صحيفة «القدس العربي» في مقدمتها، لا تختلف من حيث المبدأ عن أي من مفردتي «النفاق» و«الرياء» اللتين تعنيان فعليًّا «التظاهر بخلاف ما في الباطن»، من منظور تضمينية ولامباشرية هذا التظاهر بـ«لطافة التعبير» Euphemism عمومًا، واللتين تعنيان فعليًّا أيضا «إخفاء الانحياز في الباطن والتظاهر بالحياد»، من منظور تصريحية ومباشرية هذا الإخفاء وهذا التظاهر ذاتيهما بـ«سماجة التعبير» Dysphemism خصوصا.. تتبدى كذلك، إضافة إلى ذلك، مفردة «الازدواج» بوصفها احتمالا إماطيًّا وكشفيًّا آخرَ لمفردة «الاستقلال» تلك، وعلى الأخصِّ من حيث معنى الازدواج المَرَضي، أو السريري، في مبنى اعْوِجَاجِ شخصيةِ المرءِ المعنيِّ الذي يشيرُ إلى «ظهوره بمظهرين متمايزين يختلف أحدهما عن الآخر اختلافا نوعيًّا و/أو كميًّا»، بحسب المزاج النفسي السائد.. إذ يطغى ظهورُ أيٍّ من إرهاصَاتِ مبنى الاعوجاجِ المُتَكَلَّمِ عنه هنا (أيْ مبنى اعْوِجَاجِ «شخصيةِ» الصحيفةِ «القدساويةِ» المعنيَّةِ)، يطغى ظهورُهُ بأحد، أو بكلا، هذين المظهرين المتمايزين عَيْنَيْهِمَا كذلك طغيانا واضحا وفاضحا، بحسب المزاج السياسي السائد (أو حتى «البائد»، بقدر ما يعنيه الأمرُ) في المقابل، وهلمَّ جرًّا وهكذا دواليك..

ففي متن افتتاحيتها الرَّدِيفَةِ و«النَّدِيفَةِ» التي ظهرت ظهورا خاصًّا، فيما يظهر للعيان، تحت العنوانِ التهكُّميِّ والساخر، بنحوه المضادِّ كالمعتاد، من مفردتي «الغزو» و«الحضارة»، وذلك في سياق التوتُّر السياسي الحاصل طوعا، أو كرها، بين نظامي آل سعود وآل أردوغان، على وجه التحديد – ذلك العنوانِ التهكُّميِّ والساخر الذي يسيرُ بسيره الإعلاميِّ (السياسيِّ) بحرفيَّتِهِ على كلٍّ من الملأ «الأدنى» والأعلى، هكذا: ««الغزو» العثماني و«الحضارة» السعودية: كيد سياسي بمفعول رجعي!» /من إصدار يوم 23 آب (أغسطس) عام 2019/.. في هذا المتن كذلك، لا تتراخى أسرة تحرير صحيفة «القدس العربي»، وهي الصحيفة «العربية» المعروفة بالتباهي والتبجُّح بـ«استقلالها» السياسي على الملأين «الأدنى» والأعلى ذينك أيضا، لا تتراخى أيَّ تراخ في الحديث التهكُّمي والساخر عن مهازئ تعديل نظام آل سعود المتعمَّد لمناهج الدراسة في حقل التاريخ، على الوجه الأكثر تحديدا، وتقديم حقبة امتداد تأثير «الدولة العثمانية» ونفوذها إلى جلِّ أرجاء «الدولة السعودية» آنذاك، بالتالي، على أنها «حقبة عداوةٍ وخصومةٍ» بين السعوديين والعثمانيين بكلِّ ما تحتويه مفردتا «العداوة» و«الخصومة» من معان جلية، أو خفية: ذلك لأن ما قام به العثمانيون في جلِّ أرجاءِ «الدولة السعودية» تلك (أو حتى في معظم أصقاع «الوطن العربي»، توسُّعا) ليس «فتحا» بالمعنى التنويري الإسلامي لهذا الفتح، بل «غزوا» و«احتلالا» بالمعنى الاستعماري، أو الاستيطاني، المسيحي لهذا الغزو ولهذا الاحتلال.. كلُّ هذا الحديث التهكُّمي والساخر جاء مسرودا، من جهة أولى، بالتلميح القصدي إلى حادثاتٍ تاريخيةٍ معينةٍ، كمثلِ حدوث معركة «تربة» خلالَ العهد الأول من تأريخ «الدولة السعودية»، وكمثلِ حدوث تدمير «الدرعية» أيضا خلال العهد الثاني من تأريخ هذه «الدولة»، وحدوث التهجير القسري، أو ما يُعرف بالـ«سفربرلك»، لشرائحَ معينةٍ من أهالي المدن الرئيسية كالمدينة المنورة، وحدوث التجنيد الإجباري للـ«بالغين أشُدَّهم» من أبناء هؤلاء الأهالي من أجل تعضيد «الدولة العثمانية» ذات الأصول «الماغولية» (أي تحريفا إملائيَّا جَهُولا عن توصيف «المغولية» بالذات)، وكذلك من أجل تعضيد حليفتها «الدولة الألمانية» في إبَّانِ الحرب العالمية الأولى، إلى آخرهِ مما هنالك من حادثاتٍ تاريخيةٍ، أو حتى غير تاريخيةٍ، أخرى.. وكلُّ هذا الحديث التهكُّمي والساخر جاء مسرودا كذاك، من جهة ثانية، بالتوكيد الأشدِّ قصديةً من لدن أسرة تحرير الصحيفة «العربية» المعنية على أن ذلك «الغزوَ» وذلك «الاحتلالَ» المُتَحَدَّثَ عنهما ليسا «غزوا» ولا «احتلالا» بالمغزى الاستعماري، أو الاستيطاني المسيحي بتًّا، ولكنْ، على الخلافِ، «فتحٌ» بالمغزى التنويري الإسلامي المذكور، وعلى أن تلك الأصولَ «المغوليةَ» (بالتوصيفِ غير المشوبِ، الآنَ، بالتحريفِ الإملائيِّ الجَهُول ذاته) ليست أصولا «مغولية» بالفحوى العنصري المقصود كلَّ القصد، ولكنْ، على الخلافِ كذاك، أصولٌ «آسيويةٌ-أوسطيةٌ، قُحًّا» بالفحوى اللاعنصري، ولا شكَّ في ذلك البتة..

وهكذا، فإن الازدواجَ الصارخَ بالعيانِ في معايير أسرة تحرير صحيفة «القدس العربي» بالذات (هذا إن كانتْ لديها بالفعلِ الوجدانيِّ أيةُ معاييرَ «إنسانيةٍ» أو «أخلاقيةٍ» من النوع المقبول على الصعيد الاجتماعي، ولو بحدِّه الأدنى)، لا يكمن بالطبع في توكيدها الأشدِّ قصديةً على «نكران» الأصول «المغولية» بالفحوى العنصري المُشار إليه قبل قليل: فمسألةُ كونِ أتراكِ «الأوغوز» الذين ينتمي إليهم مؤسِّسُ «الدولة العثمانية»، عثمان بن أرطغرل (1258-1326)، أو المعروف باللقب الترتيبي السلالي «عثمان الأول»، فمسألةُ كونِهِم هاربين هربا من الاجتياح المغولي أم متحدرين تحدُّرا هم أنفسهم من الأصول «المغولية» نفسها، لَمسألةٌ لم يُبَتَّ، أصلا، في مدى صحتها العلمية من المنظور التاريخي حتى هذه الأيام – وهذا «النكران» للأصول «المغولية» نفسها يتبدَّى، بدورهِ هو الآخرُ، بصفته مثالا ملموسا آخرَ على ما يُسمَّى في لغة البلاغيات الإخبارية والإنشائية، في اللغة الفرنسية، بـ«النكران السَّرْدِيِّ» Déni Narratif، كما أُشير إليه قبلئذ في المقال الآنفِ الآخر «الصحافة العربية: مَآلُ التحليلِ المُرَصَّن بانتحالِ أسلوبِهِ المُقَرْصَن!».. وهكذا، فيما يتجلَّى كلَّ التجلِّي هَا هُنا، فإن الازدواجَ الصارخَ بالعيانِ في معاييرِ أسرةِ تحريرِ هذه الصحيفةِ «العربية» إنما يكمن في «تحمُّسها» المتواصلِ في الانتقاد الشديد للجرائم الوحشية التي كان، وما زال، نظامُ آل الأسد الفاشي يرتكبها في حق أبناء وبنات الشعب السوري الثائر ضد طغيان هذا النظام منذ «ربيع» العام 2011، من ناحية أولى، في حين أن الخطابَ «المفضَّلَ»، لا بل «المحبَّبَ»، عند هكذا نظام فاشيٍّ إجراميٍّ في بدايات الثورة الشعبية في سوريا (وبالأخص عندما كان هناك نوعٌ من «شهرِ عسلٍ» دبلوماسيٍّ بينه وبين نظام آلِ أردوغانَ الفاشيِّ والانتهازيِّ والإجراميِّ، هو الآخر)، كان يدورُ حولَ «الإيجاب» المتزايد والمتوالي لـ«الخلافة العثمانية» نفسها، وحولَ عدم اعتبار هذه الخلافة من ثمَّ «غزوا» ولا «احتلالا» بالمغزى الاستعماري، أو الاستيطاني، المنوَّه عنه أعلاه، من ناحية ثانية!!..

ترى كيف تنظرُ أسرةُ تحريرِ صحيفةِ «القدس العربي» هذه بالذات، حسبَ أحكامِهَا الازدواجيةِ الصارخةِ بالعَيْنِ والعيانِ إلى حدِّ شائنِ الكشفِ وحدِّ شانعِ الافتضاحِ (بأيِّما معيارٍ «إنسانيٍّ» أو «أخلاقيٍّ»، أيًّا كان)، ترى كيف تنظرُ إلى تيك الأحكامِ، أحكامِ الإعدام الأكثر وحشية والأكثر همجية والأكثر «لاإنسانية» والأكثر «لاأخلاقية»، تيك الأحكامِ التي نفذتها عصائبُ السلطاتِ العثمانيةِ في حقِّ أولئك الوطنيين السوريين (من أمثال شفيق مؤيد العظم وعبد الحميد الزهراوي وعمر الجزائري وسليم الجزائري وشكري العسلي ورفيق رزق سلّوم ورشدي الشمعة، وغيرهم)، تيك الأحكامِ التي نفذتها عصائبُ تلك السلطات في كلٍّ من بيروت ودمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى ما بين أواسط العام 1915 وأوائل العام 1917؟؟.. ترى هل ستنظرُ أسرةُ تحريرِ هذه الصحيفةِ «العربية» و«الفلسطينية» ذاتها، حسبَ أحكامِهَا الازدواجيةِ الصارخةِ بالعَيْنِ والعيان هذه، إلى أولئك الوطنيين السوريين على أنهم «أشخاصٌ لاوطنيُّون» لا يعدون أن يكونوا «لفيفَ خونةٍ من الدرجة الأولى»، كما كان جمال باشا السفاح بلحمه وشحمه وبأمِّ عينيهِ ينظرُ إليهم قبلَ إعدامِهِم، وكما كان ينظرُ إليهم كذاك بعدَ إعدامِهِم حتى؟؟..

كما هو معلوم في عالم الاضطرابات النفسية و/أو الذهنية عامَّةً، إن من العلائم «الواقعية» التضليلية التي تلفتُ الانتباهَ فيما يُدعى اصطلاحا بـ«ازدواج الشخصية» هي أن المصابين بهذا الاضطراب النفسي و/أو الذهني، إلى حدِّه السريري المُنْذِر، لَيحبُّون من لا يحترمونه أو لا يحترمونها، من طرف أول، ولَيحترمون من لا يحبونه أو لا يحبونها، من طرف آخر.. غير أن أهمية أن نعرف ماهية «شخص» المريض المعني، أو «شخص» المريضة المعنية، إنما هي أشدُّ إلحاحًا وأشدُّ إصرارًا من أهمية أن نعرف ماهية «مرض» هذا المريض المعني، أو «مرض» هذه المريضة المعنية – وذلك بالحدِّ على حدِّ قولِ أبي الطبِّ، أبقراط (460؟-379؟ ق.م.)، نفسِهِ، أبي الطبِّ ذاك الطبيبِ الفذِّ الذي كان مِنْ أوائل مَنْ خلَّصُوا هذا الطبَّ تخليصًا من ظلمات السحر ومن موبقات الشعوذة!!

———–

تعريف بالكاتبة

ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتُها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا بموضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة العربية» بشكل خاص..

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. كما كتبت معلقة على المقال السابق
    أيضا هنا تحليل صحفي نقدي عميق ومنور قمة في الروعة والرقي والحق يقال
    وخاصة في كشف زيف وكذب الإعلام العربي الرسمي متمثلا في جريدة القدس العربي
    مع أطيب التحيات والتمنيات للأخت الدكتورة آصال أبسال

    ملاحظة إلى هيئة التحرير
    الدكتورة آصال أبسال تونسية وليس (تونسي) كما يظهر تحت العنوان
    يرجى إضافة التاء المربوطة

  2. أيها المحررون
    احترموا أنفسكم واحترموا كاتباتكم
    الكاتبة القديرة آصال أبسال تونسية وليس (تونسي) كما يظهر تحت العنوان
    يرجى إضافة التاء المربوطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى