أن تُقرَّ الأحزاب اللبنانية بإخفاقها… حكومة بلا حِزبيين!!

توفيق شومان | مفكر وخبير سياسي لبناني

على مشارف تشكيل الرئيس سعد الحريري حكومته الرابعة، يعلو منسوب التوافق على خلو الحكومة المقبلة من الوزراء الحزبيين، والتوافق إياه كانت عرفته حكومة حسان دياب المستقيلة.

صحيح أن القوى الحزبية ومن  واقع كونها  في مقام “أهل الربط والحل”، تقبض على قرار تصنيع الحكومة على المستوى السياسي ، إلا أن موافقتها على عدم مشاركة محازبيها المباشرين في التشكيلة الوزارية، يعني اعترافا غير مباشر بإخفاق الأداء السياسي للأحزاب اللبنانية .

هذا الإعتراف غير المعلن، يرافقه اعتراف آخر مضمر وغير معلن أيضا، ومضمونه ينهض على غياب الكفاءات التقنية عن الأحزاب السياسية ، ولذلك جمعها التوافق على اختيار وزراء تقنيين ومن ذوي الكفاءة ومن غير المنضوين في الأطر التنظيمية والحزبية .

هذان اعترافان عمليان، يلقيان على عاتق العمل الحزبي في لبنان مراجعة ضرروية  لإشكاليتين  يلخصهما سؤالان في غاية الأهمية: لماذا الوزراء الحزبيون غير مقنعين في إدارة السلطة التنفيذية؟ ولماذا يغيب التقنيون والكفؤون عن الأحزاب؟

وهاتان الإشكاليتان تطرحان على بساط البحث والجدال آليات العمل الحزبي في لبنان ، وعما إذا كانت تلك الآليات تحول دون إنتاج عقول سياسية مقنعة ومفكرة وأدمغة تقنية مبدعة في مجالاتها وميادين عملها، ومن هاتين الإشكاليتين يطل السؤال الكبير : لماذا لم تنتج الأحزاب اللبنانية مفكرين ولماذا لم تنتج هذه الأحزاب مبدعين ؟.

هذه التساؤلات والأسئلة تدفع إلى جادة النقاش أيضا إعادة تعريف الحزب السياسي ودوره ومفهومه لعلم السياسة، وضمن أية معايير يتم اختيار الوزراء أو المنخرطين في القطاع العام ، وما حدود قراءاتهم ومعارفهم السياسية، ومدى اعتبارهم السياسة فعلا نبيلا غرضه خدمة المصالح العامة والوطنية .

ما سبق قوله يستلزم العودة إلى بداهات الممارسة السياسية وتعريفاتها ، ومثل هذا الأمر يقتضي العودة إلى سؤال الفيلسوف سقراط : ما السياسة ؟ .

طرح سقراط ذاك السؤال وأجاب عنه أفلاطون وقال: ” السياسة فن وعلم مثل سائر الفنون والعلوم كالطب وقيادة السفن وسياسة الخيول ، فن السياسة يجب ان يتوخى مصلحة المحكوم دون الحاكم ، مثل الطب يتوخى مصلحة المريض ، والسائس مصلحة الخيول ، وربان السفينة مصلحة الركاب ” .

من هذه الإجابة الأفلاطونية ، تبرز المقارنة بين مفهوم السياسة كخدمة عامة وبين تطبيقها العملي في لبنان ،  وهذه المقارنة تفضي إلى نتيجة بائسة ، إما لأن غالبية من تولوا أعمال التوزير  يجهلون أغراض السياسة ومهماتها ، وإما لأنهم حادوا عن قواعد علومها وفنونها ، وفي الحالتين كانت المصائب حصاد اللبنانيين .

من السياسة إلى الإقتصاد ، وتعريفه الأولي سد الحاجات ، ومقدماته قامت على نظام المقايضة ، فما كان يحتاجه المرء من سلع غذائية ، كان يقايضه بسلع مقابلة يحتاجها غيره ، ومن نظام المقايضة نتجت التجارة ، ومنها انبثق تكوين الثروات ، ومن تكوين الثروات نتج احتكار الحاجات والتحكم بأسعار الحاجات .

في المشهد اللبناني الحالي ، خروج كامل عن مبدأ توفير الحاجات وتطبيق كامل لقاعدة ” احتكار الحاجات والتحكم بأسعار الحاجات ” ، من الغذاء إلى الدواء ، ومن الماء إلى الكهرباء ، بحيث لم تبق خارج دوائر الإحتكار سلعة وحاجة ، بما فيها الأفكار التي باتت حكرا على هذه الفئة أو تلك.

أين الدولة ؟

يقول فلاسفة السياسة  إن الدولة نشأت من الحاجة إلى الأمن ،  ولما تكاثرت الخشية من سلب المحاصيل الزراعية ونهبها ، راحت الجماعات البشرية تختار رجالا أقوياء ليحموا المحاصيل المذكورة  لقاء أجر مدفوع ، ومن فكرة حماية المحاصيل نشأت فكرة الأمن الغذائي ، ومنه  تبلورت فكرة الأمن المجتمعي الهادف إلى حماية أفراد الجماعة من أشقياء في داخلها.

ما المقصود من هذا التعريف؟

المقصود تسليط الضوء على أهم وظائف الدولة ، وتلك الوظائف معنية بتوفير الغذاء لمواطنيها وحمايتهم ، وكلاهما يرتبطان بالأمن ، ولو تم النظر إلى الغذاء المفقود والأمن الضائع في لبنان ،  لقفز السؤال الوجيه إلى واجهة الحكومات اللبنانية ووزرائها المتعاقبين عما حققوه من أمن غذائي واستقرر مجتمعي لمواطنيهم ، فضلا عن سائر مقومات العيش الكريم .

هذه الخلاصات ، من تعريف السياسة إلى مفهوم الدولة ،  هي حق من حقوق اللبنانيين ليسألوا أحزابهم ويسائلوها عن كيفية اختياراتها الوزارية السابقة التي لم تكن مقنعة بأغلبها ، لا من حيث الوعي السياسي ، ولا من حيث الكفاءة التقنية ، ومن هذا المنظور ، تكون الأحزاب قد فعلت حسنا  حين استشعرت بنقصان أجسامها التنظيمية من الكفاءات المطلوبة وذهبت إلى التوافق على الإستعانة بكفاءات غير حزبية ، ولا يمكن إدراج هذه الإستعانة إلا في إطار إيجابي لصالح الأحزاب ، وتؤشر إلى ما هو أبعد من بدايات النقد الذاتي ، بل إلى قناعات حزبية  بضرورة إجراء مراجعات لا بد منها ولا غنى عنها .

هل يمكن إنقاذ الدولة اللبنانية بعد انحلالها الحاصل ؟

لا شك … يمكن إنقاذ الدولة إذا عرفت القوى السياسية أسباب انحلال الدولة ، وهذه الأسباب ، كان أول من فندها أفلاطون ، ولم يأت بعده من زاد عليها إلا قليلا ، وموجز انحلال الدولة يكمن في كثرة قوانينها وعدم تطبيقها ، فينفر الناس منها ، كما أن شيوع الخلافات بين ” طبقة الحكام ” يودي بالدولة ويهلكها ويباعد بين الحاكمين والمحكومين ، وإذا ما أضيف الفساد إلى أسباب انهيار الدولة وانحلالها ، يغدو موجز إنحلال الدولة قائما على ثلاثية : عدم تطبيق القوانين وخلافات الطبقة الحاكمة وتفشي الفساد وانتشاره .

ذاك ما قاله أفلاطون ، حين كان يتحدث عن بلاد الإغريق .

كأنه كان يتحدث عن لبنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى