فيلولوجيا، أو علم اجتماع، أو فشة خلق، أو ما شئت

د. خضر محجز | غزة – فلسطين

لغة سكان الأحياء الراقية، ناعمةٌ سلسةٌ، تحمل في جرسها ولكنتها تاريخاً طويلاً، من واقع الحياة في المدينة، أقصد الأحياء الأشد رقياً: حروفاً ناعمة هي خليط من الكورن فليكس والنسكافيه والتشيز كيك.

وفي المقابل ترى في لغة الأحياء الدنيا، أو القادمين من الريف والبادية، تاريخ البساطة، وجمال الطبيعة، لغةً فظّةً قليلاً، جميلةً كثيراً، بجمال هذا التلاحم بين الطبيعة والزي والحروف، في حروفها خليط من خبز القمح وخمير الجميد المخلوط بالزبد البلدي.

ثمة لغة وسيطة لمخلوقات وسيطة، تشبه امرأة رقصت على السلم، لأناس انتقلوا من الأحياء الدنيا أو الريف والبادية، مرة واحدة إلى الأحياء الراقية، فحاولوا أكل الكورن فليكس، فوقف في حلوقهم، فألحقوه بالتشيز كيك، فتجمد الخليطان، فكرعوا عليهما الماء المالح، الذي حضر معهم في القربة، فلم يستسيغوا ما يمضغون، ولم يستسغهم الجالسون على المقاعد المجاورة.

في الطبقتين الأولى والثانية، تجد جمال المكان وجمال اللغة وجمال الملابس والطباع، لانعدام التكلف، حتى إن الكلمات لتنتقل على ألسنتهم بسلاسة كالماء المترقرق في جدول.

في الطبقة الثالثة، تجد تكلفاً يثير الغثيان، خصوصاً حين يكلم أحدهم أحداً من الطبقتين الأولى والثانية، فلا الأولى تقبلته، ولا الثانية احترمته. وكلاهما رأى فيه مسخاً شائهاً يشبه متشرداً من مترو الأنفاق، يقلد رشدي أباظة، أو حسين فهمي. فلو أنه قلد فريد شوقي، فلربما.

فريد شوقي جميل في العجوزة، ورشدي أباظة جميل في جاردن سيتي أو مصر الجديدة.

كل هذه الفئات أقرؤها على جدار الفيس بوك. فيفاجئني بين الفينة والأخرى، من يتقززون من مصطلحاتي الفظة، فأعلم من أين جاؤوا.

لم يحدث مرة واحدة أن تقزز من طبيعة لغتي الفظة، عند المواقف المناسبة، أحد من المتحضرين.

مشكلتي دوماُ في المخلوقات المتحولة.

سأذكر حادثة لافتة تختصر ما قلت:

في العام 1969 كنت في سن السادسة عشرة، وعدة أشهر، سافرت مع صديق لي ـ في عطلة نصف السنة ـ إلى موشاف في الرملة، فاشتغلت هناك معه في البندورة والتعشيب وأعمال الحقل.

أحضر رب العمل اليهودي ـ وكان مصرياً طيباً ـ لنا الغداء في اليوم الأول، وكنا ثلاثة: أنا وصديقي ورجل كبير في سن الشباب، من الذين عاشوا هنا منذ أول الاحتلال.

لقد وُجِدْت دوائر من اللحم لا عهد لي بها، فتناوت واحدة منها وبدأت أمضغ. لكن الملعونة تأبَّتْ على أضراسي الحديدة، فصرت أمزقها فلا تتمزق. وكان زميلاي ينظران إليّ ويسخران. فلما سألتهما:

ـ لم تسخران؟

قالا:

ـ مش هيك يا أهبل. هذه نكنيك (نوع من المرتديلا) يجب أن تنزع عنه غلاف البلاستيك.

ثم تناولها أحدهم، وبمهارة مجرب، انتزع دائرة النيلون.

لم أخجل من نفسي وأنا أسرد هذه الحادثة، ربما للمرة الألف. ولو كنت من طبقة المتحولين، لزعمت أنني ولدت آكل المرتديلا، والكورن فليكس والتشيز كيك، وأحفظ منها أغلى الأنواع.

لحظتئذ كان من يعرفني سينظر إليّ متقززاً وهو يعلم أنني وُلدت في غرفة قرميد حقيرة في مخيم جباليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى