يقيني بالحياةْ
سائد أبو عبيد | فلسطين
غَضِبَ الحَصى في جُرحِ تربتِها وحنَّ على دَمي
العالمُ الأَمواتُ ما سمِعوا أنينَ أنايَ في جرحي
ولا اشتَمُّوا حرائقَ بيتِنا
نعناعةٌ في الحوضِ تخسرُ ظلَّ سيدةِ المَكانِ وظلَّها
ليمونةٌ في البيتِ يزهقُ زهرُها..
انشطرتْ أَغاني الطَّيرِ فيها
واخضرارُ يدِ العشيقةِ مَنْ تصبُّ الماءَ في جذرِ الحَياةْ
يغتالُ جهرًا صوتُنا المَشَّاءُ بالأحياءِ
طفلٌ كان خطَّ على جدارِ البيتِ وسمًا للورودْ
طفلٌ يمدُّ ذراعَهُ لرفيقةِ الحيِّ الصغيرةِ
حينَ لاعبَها بما تُعطي منايا الحبِّ زهرةُ أُقحوانْ
حلمٌ تَجَيَّشَ في العيونِ
فصارَ أُفقُ الكونِ مهدَهُما..
غدًا ستراقصينَ البَدرَ والنَّجماتِ
حولَكِ سوفَ تلتفُّ الطُّيورُ معي مغردةً
وينهضُ فوقَ ثوبِكِ خضرةُ البدرِ المنيرِ على الخُيوطِ النَّيِّراتْ
لبياضِ ثوبِكِ قامَ يرنو الصُّبحُ
يزخَرُ في بياضِ اللَّوزِ
يبني فوقَها أعشاشَ حلمٍ فارهاتٍ بالهَديلِ الرَّطبِ في لغةِ الحَمامْ
ورَّثتُ قلبي بالنَّشيدِ
أَعدتُ أَحلامي لماءِ النَّبعِ كيْ تَسقي غزالتَها
فمقدورٌ لها تَعَبُ المَشاويرِ السَّحيقةِ بينَ نابِ الذِّئبِ والصَّيادِ
تعبُرُ مِنْ عيونِ المَوتِ مُسرِعَةً
لتهنأَ عندَ ضفَّةِ نهرِنا
وتَرِقَّ حباتُ النَّدى سُقيا لها
عنْ رأسِ نخلتِنا وأفنانِ النَّباتْ
فَوَّحتُ بالصَّوتِ الشجيِّ مدايَ
جللَّتُ البلادَ بأغنياتِ الحقلِ
سَوَّرتُ الهضابَ بما ورثتُ مِنَ الرُّعاةْ
يرِثُ الفتى أَمَلًا بضيقِ زقاقِهِ
ويرى على أَبوابِهِ عشتارَ ترفعُهُ إِلى صَبَواتِها
وحريرُ معطفِها أرائكُ للنَّجاةْ
بيقينِها ترتيلُ أُغنيةٍ لنا
رفعتْ بها ضوءَ الأَسرةِ عندما انطفأَ المَكانْ
وأَرى صعودَ الشَّمسِ في قَسَمَاتِها
لتوزِّعَ الضَّوءَ الكثيفَ على موائِدِنا
فأطلقنا العَنادِلَ بالغِناءِ إلى رؤىً
نبتتْ بلا أرقِ الدخانِ على سحابٍ في السَّماءْ
صارتْ تكابِدُ ليلَ وحشتِها بوحدتِها
ودمعُ العينِ مسبحةُ البُكاءْ
أَنَّا نظرتُ رأيتُ أَحلامي تموتُ
ولا تطاوعُني لنعبرَ بالنَّجيعِ
فراشةٌ تعِبتْ مِنَ السَّفرِ الطَّويلِ حبيبتي
وأَنا يزاحمُني الرَّمادُ
يُناصِبُ الأوقاتِ في زمني الضَّياعْ
وَلَهُ القَصيدةِ وحدهُ بالإحتراقِ
يُؤرخُ الأيامَ في عينِ الغَرامِ ولا يَنامْ
حبقٌ بنافذتي شَهِيّ الإِنتظارِ
كأنَّهُ وجهي المُسَافِرُ في انحدارِ الوقتِ
يرنو للصَّباحْ
الريحُ ظالمةٌ يَدٌ من بطشِ مغتصبِ الزَّنابقِ واللَّيالكِ
في مياسمِ شُرفةٍ صعَدَ الفراشُ بها
ليخرجَ من كآبتِهِ
فأوصدَ زهوَهُ ربُّ الغبارْ
الحربُ أوغَلتْ الخُطى
قضمتْ قوامَ الشَّمسِ عنْ قرميدِنا
الحربُ تُسقِطُ نارَها في قمحِنا
الحربُ تصهرُ عن سياجِ حدائقي الياسمينةَ
زهرَ ليموني
حنينَ الغِصْنِ في صدرِ البيوتْ
الحربُ تلحقُ بي
وأغنيةَ الفتى الغافي على مهدِ الحقولْ
الحربُ تزحفُ ثمَّ تزحفُ بالأباطِرَةِ الجُناةْ
الحربُ بالبارودِ تعوي في مراعينا
ليفزعَ من مآمنِهِ اليمامْ
الحربُ تغتالُ القصائدَ في كراريسِ الطُّفولةِ
نبضُ أَقلامِ الصَّغيرةِ صارَ مذبوحًا
وملقىً في الحَصاةْ
الحربُ جارحةٌ فما أَبقتْ غناءً في الكَمانِ
أصابعي محروقةٌ مثل الكمانْ
وتأَوَّهَ الشَّجرُ المُسَوِّرُ بيتِنا
حتى تَدانا صوبَ تربتِهِ فأثقلَهُ الأَنينْ
والياسمينُ على جنائِنِنَا يَفورُ بعطرِهِ
لكنَّهُ كرِهَ السُّكونْ!
لا كفَّ لامرأَةٍ على عيدانِهِ صعدتْ
ولا ابتسَمتْ عيونْ
هذا خِواءٌ مطلقٌ
إِرثٌ لحربٍ في البيوتِ العالياتِ بحبِّنا
وعلى الكُرومِ الخَاوياتْ
الدالياتُ عبسنَ والعنقودُ
صدَّعني الرَّحيلُ إِلى خفايا العُمرِ
ألقى بي الطَّريقُ يبابَهُ
كُسِرت مواويلي بلا جَفرا
مُشَرَّدَةً أراها في بكاءِ النَّايِ
يا قدرَ الغيابِ أَنلتقي؟
وجعُ المَلاجِئِ أَنْ نَّرى الأَسماءَ ميتةً بِنا
والناسُ تندَهُ بعضَها أَرقامَ خاليةً مِنَ المَعنى
يرادُ لنا المقاصلَ
مِسْكُنا جُرِحَ الفَوَاحُ بِهِ وأُثقلَ بالغَباشْ
بردُ الخيامِ رسى على الأَنفاسِ كالجَروِ الأَليفِ
فنامَ في الأَضلاعِ أَهَّلَ رِجسَهُ
البردُ أطوارُ المَلاجئِ
جاثمًا يبقى ليغتالَ الرَّحيقَ الحُرَّ في صدرِ البَتولْ
ما رطَّبتني لهفةُ الدِّفلى ولا عِنبُ الدَّوالي في الهَجيرْ
ورأيتُني أَخطو وتجرحُني الأسنَةُ في الطَّريقْ
فمواجِعي ثَقُلتْ
وظهري في تَقَوُّسِها
نمتْ صِفصافتي فاشتدَّ عَزمي مرةً أُخرى وأُخرى
كُلَّما نضجُ الأَنينُ عليَّ تابعتْ المَسيرْ
قلبي يعانِدُ موتَ أَطرافي وينبِضُ بالحَياةْ
عينايَ تنظرُ للأَمامِ
إِلى بياضِ اللَّوزِ في رَبَواتِنا
خيلٌ يسافرُ بالخَيالِ إِلى مديحِ خمائِلِ العُشبِ المُنَدَّى في المُروجْ
مِلئي اخضرارُ بلادِنا رُغمَ اليباسِ عليَّ أرخى ظلَّهُ
وأنا المُشَوَّقُ بالبِلادِ فكيفَ لي نسيانَ ريحاني ونَعْناعِي!
فأَضلاعي معبقةٌ بعطرِ الميرميةِ
والهويةُ بي أَريجُ الزَّعفرانْ
ما ذنبُ قلبي كيْ يظلَّ يمامةً فزعَتْ إِلى قدرِ النَّوى؟
ما ذنبُ عاشِقَتي تَبَلَّلَ شالُها بالنَّزفِ..
واجترحَ الصَّدى دمعًا بعينيها فأَثقلَ جفنَها؟
ما ذنبُ أَطياري بلا أعشاشِها حمَلتْ نواحَ عذابِنا؟
لا حقلَ كَوَّنَهُ الرَّحيلُ لها
ستبقى بالرَّحيلِ تقصُّ ميراثَ البُكاء ْ
الماءُ في ضَحضَاحِنا
طهرُ الأَكفِ
وضوءُ وجهِ القائمينِ إِلى الصَّباحْ
كان الغناءُ يفزُّ في ميقاتِهِ خمسًا
فنسمو بالصَّلاةْ
لا بدَّ مِنْ فرحٍ عتيقٍ في بيادرِنا
ليخرجَ حولَ مائِدَةِ الحصادِ شموسُ حِنطتِنا
وتهليلُ النِّساءْ
أحتاجُ قافيةً لأُوغِلَ في الدُّجى فرسًا بغرتِها ابتهاجُ الضَّوءِ
تعبرُ بيْ
فخطوي ساهِمٌ بالتِّيهِ
باللَّا شيءِ
والبَّلورُ في أُفقي البَّعيدِ إِلى سُدًى يمضي
فما لي بالمَرايا؟
لا أُريدُ بأَنْ أَرى حُزنًا عليْ
أنا واحدٌ في وحدَتي
وحوافُ دربي للذِّئابْ
وأَنا غنيٌ بالوَصَايا
ما عرفتُ اليَأسَ في شَوقي
تَبَصَّرتُ المنازلَ كلَّها
وسكنتُ أجملَها شهيًّا
مثلها أَبدو
وهيَّأَ خَدَّ عاشقتي الفَنَارْ
ما كنتُ يومًا واهِنًا بالجُرحِ
رافعتُ الهُتَافَ على وريدي
وردةٌ بيضاءُ مثخنةٌ شُعوري
كالنبيينِ التُقاةْ
لزَّجتُ حبرَ الشِّعرِ في عينيَّ
رُغمَ ضآلةِ الضَّوءِ اقتبستُ من اللَّظى فانوسةَ الشَّهداءِ
يأنسُها الأُباةُ الصَّاعدونُ إِلى براحِ الحُلمِ
في وطنٍ يقومُ بجرحِهِ ألواحُ من شعرٍ تبوَّحَها الفؤادُ
كنَورسٍ في بحرِ معناها
فمِنْ حقي التَّأمُّلُ بالحَياةْ
قمرٌ على هذا التَّرابِ ينثُّهُ دمُنا
تُلائِمُنا مراياهُ النَّديةُ بالغَضبْ
فأَرى البيوتَ تقومُ من أَجداثِها غضبًا مبينْ
أحجارَ تُدمي وجهَ مَنْ صعدوا عليها بالبنادقِ آثمينَ جُناةْ
هُوَ كلُّ شيءٍ في مَرايا حلمِنا غضبٌ يقاتِلُ
لا يريدُ سوى انتصارِكِ
فاورِقي يا أَرضُ بالشَّهداءِ
بالثُّوارِ
وابتسمي بدحنونِ الحُقولْ
الماءُ يجري في يدِ الفتيانِ سُقيا للزُّهورِ وللفَرَاشْ
ولأَنَّهم عَشِقوا تُرابَكِ
سُرَّةَ النَّبعِ المُحَجَّلِ بالصَّبايا الصَّابراتِ الحَالماتِ
مشوا بأذخرةِ الفدائيِّ العصيِّ على الهَوانْ
فالعاشقونُ أُباةْ
الغاضبونَ تيمَّموا طينَ البلادِ
وأطبقوا زمنَ التَّخاذُلِ خلفَهُمْ
الغاضبونَ بِحبِّهم ليسوا عُصاةْ
سيفورُ في ليمونَةِ البيتِ العتيقِ زهورُها
ويقومُ في حيضانِ بيتي خضرةُ النَّعْنَاعِ
تّتَّضِحُ الخمائلُ بالشَّذا
كلٌّ على ثغرِ البلادِ مُقاتِلًا
الشِّيبُ
والشُّبَّانُ
والفِتيانُ
والزَّهراتُ
وامرأةُ الفِدائيِّ الجَسورْ
لا بُدَّ مِنْ زمنٍ جديدٍ
يُستضاءُ بضحكةِ امرأَةٍ رَأَتْ فرسَ الحبيبِ تعودُ صاهِلَةً بعشقِ حبيبِها
سيَحُفُّها شَجَرُ البَّهاءِ
تقومُ بالنَّجماتِ
تغمسُ وجهَهَا أَيقونةً فُتِحَتْ لأَجلِ حبيبِها
ستضمُّ فيهِ طبيعَةً تخلو من الرَّهبوتِ
تغرفُ من نسائِمِهِ الأَمانْ
مَنْ ذا سينقِصُ حلمَنا بالحُبِّ في أُخدودِ كرمِلِنا الرَّحيبْ؟
أو مَنْ يظنَّ بأنْ يقُصَّ رحابةَ النَّسمِ الرَّطيبِ
على رِئَاتِ الطَّيرِ في شَجَرِ الأَعالي
عندَ منعَطَفِ الغُروبْ ؟
شجرٌ تسلقناهُ رغمَ المَوتِ
فانبثقَ الإِباءُ بَنا
وعانقنا المدى شُرُفًا تفوحَ بما يَهُبُّ على ذراعِ الفَجرِ
نَجنَحُ للنَّهارِ
فشمسُنا قَربَتْ
وسربُ الطَّيرِ قاربَ للوُصولْ
بدمٍ تكاتِبُنا القصيدة في هبوبِ الشَّوقِ ثُوَّارًا
نفيءُ بها إِلى سِفْرِ الخُلودِ بلا جنائزَ
وجهُنا باللازوردِ يشعُ
يسكنُنا الضِّياءْ
القلبُ بيرقُنا يمسُّ عرائشَ المعنى الجَمُوحِ
يدقُّ بابَ الإِنتصارْ
هذا يقيني بالحَياةِ
شموسُنا نضجَتْ علينا
مثلما نضجتْ سنابلُنا لتطعِمَ طيرَنا قمحَ الحياةْ
هذا اليقينُ الحرُّ انشادي
وأُغنيةُ الفدائيِّ الأَخيرةُ في ملاحقَةِ الغُزاةْ
لا حقَّ في وطني لِسُرَّاقِ الحَياةْ
لا حقَّ في وطني لِسُرَّاقِ الحَياةْ
لا حقَّ في وطني لِسُرَّاقِ الحَياةْ