سجيع السِّيما .. قصة قصيرة

محمد فيض خالد | مصر

يتهادى في مشيتهِ غير مكترث لأحد، مظهره لا يوحي مُطلقا على رائحةِ القوة، حتى وإن ظلّت آثار من شمسِ أمسه، تُوشِك أن تغيب عن جسدهِ المتسربل في أسمالهِ المتواضعة، أكذب عيني ألف مرة أُطالع عوده الزَّاوي، ونظرات فاترة لعينينِ سود أضيق من عينِ دجاجة تتفحص المارة من حولهِ، مشهور عنه أنّه يرمي من يراه بنظرةٍ حامية، ينبعث منهما اطمئنان غريب، وثقة تشعّ لا يعرفها إلا من أوتي نصيبا من السُّمعةِ.

  يغيب في حالةٍ من النشوةِ، أينما سَارَ تتبعثر في طريقهِ قصاصات من أحاديثِ الماضي المبهم، تُزَاح عنها الأنقاض، ويُنفخ ترابها، وتبعث فيها الرُّوح، فتنمو عيدانها وتُورِق بعد إذ تيبّست، تتراقص على استحياءٍ تلعن أجداد من أيقظها ، ومن تذكّر ” السجيع” . استفزتني طويلا سوقه الرفيعة، مهتزة متراخية بلا حياة، تضرب بطن حمارهِ الأعجف، سريعا أغوص في متاهاتٍ لا شاطئ لها، تزن في أذني بقايا كلماتٍ سمعتها منذ أيامٍ بلا مناسبةٍ، عن صاحبنا الذي ضَربَ في صِباه بلدا بكاملهِ في معركةٍ ولولا ستر الله وتدخل أبناء الحلال في الوقتِ المناسب، لجلب أسرى من غزوتهِ، وعاَدَ بهم في أغلالِ الذّلِ والانكسار. ِ

 اعتقد أن الرجل من جملةِ المحظوظين، فها هي الأقدار تؤازره، وتمهد له تحقيق رغابه، تثير فيه كوامن ذكرى الماضي المجهول، حتى امتلأت نفسه بالتأففِ والإزدراء، وخاطرا ملعونًا يجري في نفسهِ، جعله يُخاشن الناس مرة، ويُحاسنهم أخرى.

تُحاصر الذئب العجوز عيون الشّباب ، وعشرات الأسئلة تحتجزها ألسنتهم ، أحيانا يتفلّت سليط اللسان من بينهم، وقد تبدّت منه بوادر سوء نية، فيعترض طريقه في صلفٍ ، يُزمجر ” السجيع ” بكلامٍ مدغوم، فجأة يتصل بينهما حبل غليظ من الشتائم ، يحتدم أوار غضبه، وتطفو عواطف دفينة مهتاجة ، يهزّ رأسه في إزدراء، وقد زوى ما بين عينيهِ ، يتحسّس عصاه الغليظة ، يدب الرعب في القلوب، وتقشعر فرقا أبدان المتشاكسين ، يتنحنح ليجلو صوته، تمر لحظات يكبح فيها جماح غضبه المُتضرِّم، قبل أن يندفع بعبارةٍ موجزة : العب بعيد يا شاطر منك له.. حكى لي ابن اخته ذات ليلةٍ، وشعاع الغبطة يبدو من عينيهِ، وضحكة حبيسةٍ تعتمل في صدرهِ، لقد تنافس مع عشرين رجلا، فما استطاعوا ثني سبابته، استدار بوجههِ يتفحص الطريق وكأنّه لص عتيد، وأردف في تحسّرٍ: لقد كان فيما مضى أنيقًا مهندما، يفيض خفة وغواية، يخطر في مشيتهِ، تتناثر كلمات الحب من فيهِ للصبايا الحسان.

 يؤكد نَفَر غير قليلٍ من أهلِ القريةِ؛ إن جنية عشقت صاحبنا وفتنت بشبابه الغضّ، فأيقظته من رقدتهِ عند الساقيةِ، ومست ذراعه الأيمن بضفائرها، فسرت شرارة القوة في جسدهِ ، ونفر العرق الأزرق في ذراعه ، الذي يُشبه قرن الفول الأخضر ، يقول النسوة في الزقاق الضيقِ، الذي أكلت الرطوبة جدرانه وتركت بقايا ماضيه، إنّه ” عرق الصّبا” تمني الحامل نفسها أن ترزق بمولودٍ يُشبه ” السجيع ” تتمتم بدعواتها الوجلة لحظة مرورهِ ، تهيم فيهِ حتى يغيب ، حكت جارتنا أن صاحبنا سحب الساقية الكبيرة وسقى نصف فدان من الذرة . تصرّمت الأيام وانفضّ عنه ربيع العمر، لملمت شمس الأيام ظلها، ولكن بقايا حكاياته لا يخبو وهجها في ذاكرة قريتنا، التي تمرغت في أوحالِ الخرافة، أزفت ساعته وحُمل أخيرا فوق أعناقِ الرِّجال ، سمعت بأذني حملة النعش يتناجوا بينهم : هل حقا مات سجيع السيما ، لا يمكن ذلك …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى