رؤى في معنى الوَطَن والمواطنة
رحاب يوسف | كاتبة وتربوية فلسطينية
حُبُّ الإنسان لوَطَنِه أمرٌ فِطريٌّ وجِبِلَّةٌ، والديارُ في الشعر العَرَبي يُراد بها الأوطانُ، يقول قيسُ بن المُلَوَّح:
أمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى
أُقَبِّلَ ذا الجِدار وَذا الجِدارا
هذا أمرٌ يَفرِضُهُ العَقلُ، بأن يكونَ حنينُ الإنسان إلى مَوطِنه الأول الذي وُلِدَ فيه، ونَشَأ وتَرَعرَعَ، وتَنَفَّسَ هَواءَهُ، وشَرِبَ ماءَهُ، وتَغَذّى من خَيراته.
الإنسان الذي يُهَجَّرُ، ويُشَرَّدُ من وَطَنه أكثَرُ الناس حنيناً، وعندما هاجَرَ المُسلمون من مَكَّة حنَّ بلال إلى مكّة، وأخذته الحُمّى، وحنَّ إلى جبالها وبيوتها، فقال:
وهل أردنَ يوماً مياه مِجَنَّة
وهل يبدون لي شامةٌ وطفيلُ
فلما سَمِعَ الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذلك من بلال دعا: “اللهمَّ حَبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبّنا مكّة أو أشَدَّ”.
للوطن حَقٌّ عَلَيَّ كما للوالدين أيضاً، جميلٌ أن أتَغَنّى به، لكن الأجملَ أن أُعطِيه حَقَّهُ، وأن أُتَرجِمَ ذلك إلى سلوكٍ من تَضحِيَةٍ، وذَودٍ، ودِفاعٍ، فأُبدي تعاوني لأهلِ حَيِّي، وقريتي، ومدينتي، حَقُّ الوَطَن عَلَيَّ وعليكَ عظيمٌ في المساهمة في تَوحيد الصفوف، وعدم بَثِّ التَفرِقَةِ وشَقِّ الصفوف، كلٌّ حَسبَ قُدراتِه، وطاقاته، وإمكانياته، والله – سبحانه وتعالى – يقول: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا “آل عمران (103)، وهنا يُبَيِّنُ الله – عزَّ وجلَّ – دورَ الوحدَةِ في بناء الفَرد والمجتمع، فأينما تَحِلُّ الوحدَةُ تكون المَحَبَّةُ، والإخاءُ، والتسامحُ، والتعايش، وتَختفي الشُرور، والأحقادُ، والعُنصُريّة، وتُحَفِّزُ الفردَ على المُضِيِّ نحو غَدٍ مُشرِقٍ، فتزيدُ رَغبَتُه في العَمَل والبناء والنهوض.
لقد ذَمَّ اللهُ الفُرقَة والشَّتات في كتابه العظيم، فالفُرقَةُ ومفارقةُ الجماعة أمرٌ خطيرٌ، حيث قال تعالى: “وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”الأنعام (153) ، وهنا يُخبِرُنا اللهُ – سبحانه وتعالى – أنَّه هَلَكَ مَن كانوا قَبلَنا بالفُرقَةِ، وبفُرقَتِنا تتآكلُ علينا الأُمَمُ، فتَقوى، وتَستَأسِدُ، فتسودُ.
من اللؤمِ وقِلَّةِ المُروءَةِ والشَّهامَةِ خِيانَةُ الوطنِ، وأن يُعينَ الرجُلُ الغُرَباءَ على قَومِه، وخيانَةُ الوطنِ لها صُوَرٌ كثيرةٌ، منها: بَيعُ أراضٍ، وبيوتٍ، وتُراثٍ، ومعلوماتٍ، تُضِرُّ بالأمن الوَطَنيِّ والقَوميِّ، تَستَوجِبُ التجريمَ، وتَصِلُ عُقوبَتُها إلى الإعدام، لا شيءَ أغلى من الوَطَن، الوَطَنُ هُويَّةٌ، وأرضٌ، وتاريخٌ، وذكرياتٌ، وماضٍ، ومستقبلٌ، يَسكُنُ وسطَ أعماقِنا، أينما ذَهَبنا ذَهَبَ مَعَنا، نَسكُنُه ويَسكُنُنا.
المُصيبةُ الكُبرى أن يُبتَلى الإنسانُ بابنٍ عاقٍّ خائِنٍ للوطن، يُوَرِّثُ عاراً لأُسرَتِهِ وعائلته، قد يَفِرُّ ويَهرُبُ، لكنّه يَترُكُ خلفَهُ أُسرَةً تُعاني، وتواري وَجهَها صباحَ مساء من فِعلَةِ هذا الخائن.
حُبُّ الوَطَن لا يكونُ عن طريق التلقين، حُبُّه شيءٌ عاطفيٌّ تَحصُلُ عليه عندما تعيش في ظروفِه، وتعبرُ وديانَهُ، ووِهادَهُ، وجِبالَهُ بخُطُواتِكَ، وتكونُ من المُعمِّرينَ له، لم يُعَلِّمنا أبي – رَحِمَهُ الله – حُبّ الوطن يوماً، لكن رأينا كيفَ روى عَرَقُه كُلَّ ذَرَّةِ تُرابٍ في قريتي، وهو يَزرَعُ هنا، ويُعَمِّرُ هنا، ويبني هُنا، يَتَمَنّى أن يراهُ في أمنٍ وأمانٍ دائمين، ويدعو دعاءَ سيّدنا إبراهيم – عليه السلام – حين قال: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ” البقرة (126)، فنعمةُ العيشِ في أوطاننا بأمنٍ وأمانٍ تساوي الدنيا وما فيها، وأن نأكُلَ رَغيفَ الخُبز اليابس، ونَسكُنُ الخَيمَةَ، ونَشرَبُ الماءَ من الكوز أفضلُ من حَياةِ التَّشَرُّدِ خارجِ الأوطان.