سقوط المحكمة العليا الإسرائيلية الوشيك

المحامي جواد بولس | فلسطين

 

ما يجري داخل المجتمع الاسرائيلي شبيه بمعركة ضارية على ترسيم آخر مناطق النفوذ في غابة جبّارة، وحسم قضية من سيضع ومن سيتحكم بقوانينها. وإن كان الصدام السياسي هو الأبرز في هذه المعركة، فإن هذا لن ينجَز إلا إذا حسمت معه أو قبله، بعض المعارك الأخرى، وأهمها تلك الجارية فيأروقة الجهاز القضائي وعلى مصيره، وكذلك تلك الحملات من ملاحقة واقصاء مفاصل الجهاز البيروقراطي المهني واستبدالهم بإمّعات ستحني ظهورها لتمكين أسيادها من الركوب على أنفاس المواطنين. ومن لا يوافقني فليقرأ حصاد الدمع والعبث الذي أُنجز في أسبوع واحد فقط.

صادقت، يوم الأربعاء الماضي، محكمة عسكرية تختص بمقاضاة جنود الاحتلال، على صفقة كانت قد أُبرمت قبل ثلاثة شهور بين النيابة العسكرية الإسرائيلية ومحاميي الجندي، قاتل الشاب أحمد جمال مناصرة، حيث اكتفى قضاة هذه المحكمة الثلاثة بالحكم على الجاني بثلاثة شهور سجن تستبدل بالعمل لصالح الجمهور، وبثلاثة شهور سجن إضافية مع وقف التنفيذ .

لم يسمع القرّاء، على الأرجح، بتفاصيل تلك الجريمة ولا كيف تابعَتها أذرع الأمن وأخرجتها طاحونة “العدل” الإسرائيلية؛ وعلى الأغلب سوف تطوى الحادثة مثل كثيرات سبقتها، وستحفظ في سجلات العهر البشري، بينما ستستمر أنهر الحسرة الفلسطينية بالنضح.

يوم 20/9/2019، قرابة الساعة التاسعة مساءً، كان المواطن علاء غياضة، وهو من سكان قرية نحالين، الواقعة غرب مدينة بيت لحم، عائدًا بسيارته برفقة زوجته وابنتيهما الصغيرتين من زيارة لأهلها في قرية أرطاس المجاورة؛ وعند وصول العائلة الى مفرق “النشاش” توقف محرك سيارتهم فجأة، فركنها علاء الى جانب الطريق وترجل منها في محاولة لإعادة تشغيلها. ولسوء الحظ، يوجد بالقرب من ذلك الموقع برج مراقبة لجيش الاحتلال؛ فما ان نزل علاء من سيارته، حتى قام أحد الجنود المتمركزين فيه بإطلاق عيار ناري نحوه فأصابه في بطنه مما أحدث أذى كبيرًا لأعضائه الداخلية.

على إثر إصابة زوجها طلبت ميساء غياضة المساعدة من مجموعة شبان كانوا عائدين، الى قريتهم، وادي فوكين، من حفل زفاف لصديقهم، ومروا من هناك في تلك اللحظات بسيارتهم الخاصة.

توجه الشبان الثلاثة نحو علاء المصاب ونقلوه الى المستشفى؛ في حين بقي احمد مناصرة بجانب الزوجة والطفلتين. حاول أحمد تشغيل المحرك إلا أن الجنود استأنفوا إطلاق النار صوب المركبة فاضطر النزول منها لتفادي رصاصهم، لكنهم استمروا بإطلاق النار حتى أصيب في صدره بعدة عيارات ادت الى موته في مستشفى بيت جالاً بعيد نقله إلى هناك.

حاولت عائلة مناصرة ابطال الصفقة التي اعترف بموجبها الجندي بالقتل بالإهمال وبدون ذكر محاولة قتله لعلاء غياضة. لم تسمع منهم النيابة العسكرية فتوجهوا الى محكمة العدل العليا وطالبوها بالتدخل للإعلان عن بطلان الصفقة وتعديل لائحة الاتهام، فوفقًا لجميع الشهادات والمعطيات، فقد نفذ الجنود محاولة قتل وعملية قتل واضحتين.

رفضت المحكمة العليا بتاريخ 23/11 الماضي التدخل، وذلك بحجة ان التماس العائلة قدم في وقت متأخر، اي بعد تقديم لائحة الاتهام واعتراف الجندي بها واضافوا: “لا شك اننا بصدد حادثة صعبة كانت نتيجتها تراجيدية، ولا يوجد من يعترض اليوم على انه تبين، بأثر رجعي، اننا لسنا بصدد عمل ارهابي، انما بصدد غلطة ارتكبها الجندي حينما فهم انه يواجه محاولة تنفيذ عملية ارهابية”.

اذن، هكذا اقرت هيئة المحكمة التي تشكلت من قاضيين مستوطنين، نوعم سولبرغ، وياعل فلنر، والقاضي ماني مزوز، بأن ما “جرى” كان مجرد غلطة ليس إلا.

قبل يومين من اصدار المحكمة العسكرية لحكمها المهزلة على الجندي القاتل بمقتضى الصفقة، وربما بتزامن عبثي يختزل كل احداثيات المأساة التي تتداعى فصولها امامنا، أعلن القاضي، ماني مزوز، عن قراره ترك منصبه في نهاية العام الجاري؛ وذلك قبل أربعة أعوام من موعد تقاعده القانوني. فاجأ توقيت اعلان القاضي مزوز الكثيرين لا سيما وانه كان القاضي الرابع الذي يعلن عن استقالته المبكرة في اقل من اربعة اعوام؛ فلقد سبقه في العام 2016 القاضي تسفي زيلبرطال، ثم تلاه في العام 2018 القاضي يورام دانتسيغر، وقبل مزوز كان قد أعلن نائب رئيسة المحكمة القاضي حنان ملتسر عن استقالته هو ايضًا؛ وجميعهم لا يُعدّون، في القاموس الاسرائيلي، على قضاة المحكمة “المحافظين”. 

لم يعرف تاريخ هذه المحكمة منذ تأسيسها في العام 1948 مثل هذه الظاهرة التي بدأت تراكماتها تقلق بعض الغيورين على شكل نظام الحكم في اسرائيل وعلى مستقبل الدولة؛ فمكانة المحكمة العليا الاسرائيلية وقضاتها كانت، داخل المجتمع اليهودي برمته، فوق كل الاعتبارات، والمحكمة نفسها سُوّقت في العالم منذ البدايات ككاتدرائية تخصّب بين جدرانها قواعد التنوير الصهيوني المدّعَى، وكمعقل حصين يشهد على اصرار قادة اسرائيل على بناء دولة عصرية يكون فيها القانون وحراسه فوق كل الصراعات السياسية ومنافسات اصحاب المصالح ومراكز القوى على تفرعاتها.

لن نغوص هنا بكيف ومتى ولماذا بدأت معركة اليمين الجديد وانقضاضه على بنى الجهاز القضائي كله، لكنها اشتدت بعد سيطرة ذلك اليمين على البرلمان وعلى الحكومة ومؤسسات الحكم الرئيسية؛ فعندها رأينا بوضوح كيف شرعت قيادات هذا اليمين المنفلت والمتطرف بالعمل على اختراق واحتلال معظم المواقع المؤثرة في مراكز اتخاذ القرارات القضائية وفي داخل المحاكم. وخير من عبرت عن هذا التحول وقادته كانت وزيرة القضاء السابقة، اييليت شاكيد، حين اعلنت، بدون مواربة وبشكل حاسم، على انها تسعى الى تغيير الوضع القائم في جهاز القضاء، لا سيما داخل المحكمة العليا التي يجب ان يملأها قضاة “محافظون” يعرفون كيف يدافعون عن الدولة اليهودية وعن مباديء الصهيونية الاصيلة.

لقد قرأنا قبل اعلان القاضي مزوز عن استقالته، عن اجتماع لجنة تعيين القضاة الذي انعقد في الاسبوع الماضي، وعن قراراتها بتعيين واحد وستين قاضية وقاضيا، كان من بينهم ستة مواطنين عرب. هاجمت ممثلتا الكنيست في اللجنة، عضوتا حزب الليكود، اوسنات مارك والوزيرة ميري ريغف، مخرجات الاجتماع المذكور ولم تعترفا بقانونية قراراته؛ علمًا بانهما قاطعتاه لأنهما عرفتا بنية اعضاء اللجنة ترقية قاضي محكمة صلح القدس عباس عاصي وتعيينه قاضيًا في المحكمة المركزية في المدينة، رغم ما يعرف عن شخصيته المعادية للشرطة وللجيش وللمستوطنين، وموقفه “ضد الصهيونية”، حسب ما جاء على لسانيهما في الصحافة.

لن نعرف اذا كانت هنالك علاقة بين استقالة القاضي مزوز وما جرى ويجري في لجنة انتخاب القضاة، او وراء كواليس المحكمة العليا التي بدأت تُسمّن بقضاة ايديولوجيين، لا يأتمرون الا بوصية أربابهم ولا يعنيهم الا ارضاء ملوكهم وتحقيق مآربهم؛ وهم من اجل ذلك لن يبقوا لمزوز ولأمثاله من القضاة الصهاينة  “التقليديين” أي هامش ليبرالي أو قاعدة قيمية لا تتناسب وعقائدهم الدينية والقومية ؛ فكل كنوز  “الهيكل الاكبر”  ستسخر، باسم القانون والتوراة وعدلها ، وستقدم على مذابح “الرب والملك والوطن”؛ وقد يكون القاضي مزوز قد شعر بهزيمة “حلمه” وقرر كمن سبقوه الانسحاب. 

سوف نشهد، في المستقبل القريب، استعار المعارك داخل المجتمع الاسرائيلي، حين سيتصارع فلول النظام القديم مع جحافل المملكة الجديدة. ان المواجهة في اوجها ولا يجوز لنا، كمواطنين وكضحايا، أن نبقى على الرصيف من دون أي موقف وعمل؛ فتعيين عشرات القضاة وفي طليعتهم اربعة قضاة للمحكمة العليا هي حرب اليمين الاسرائيلي القادمة وعليهم ان يظفروا بها ليتمموا مراسيم دفن “الرخاوة الليبرالية الحمقاء”، وليُحكموا سلطانهم على البلاد وعلى العباد بدون تأتأة ولا تردد ولا مداهنة.

 علينا كأقلية، هي أول وأكبر الخاسرين من سقوط جهاز القضاء نهائيًا في ايدي اليمين الجديد، ان نسعى لوضع خطة في مواجهة “النظام الجديد”؛ فهو سيكون مختلفًا بشكل جذري عما سبقه وذلك على الرغم من ان النظام القضائي القديم عاملنا بعنصرية مقيتة ولم ينصفنا بالمطلق.

ما العمل؟ أنا لا أملك حلولًا واضحة للخطر الذي استشعره، ولا اعرف بالتحديد ماذا يجب ان نفعل؛ لكننا لو بادرنا، واخصّ تلك المؤسسات والجمعيات المدنية التي تعمل في هذا القطاع، الى وضع تصورات مهنية تكون اساسا للحوار وللنقاشات الجدية، فقد نجد بداية الطريق؛ او ربما نتفق على تشكيل جسم مصغر تناط به مهمة الاعداد  ليوم او ايام دراسية يتفق على محاورها ويشارك فيها فقهاء القانون العرب واليهود والناشطون في هذه القضايا والمتوافقون على تشخيص المخاطر المحدقة والاكيدة وعلى ضرورة مجابهتها بالأفعال وبالبرامج الحقيقية، حتى لو اختلفت الحوافز او المخاوف او الاهداف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى