الأطفال لا يموتون

د. خضر محجز | فلسطين

 

خصوبة

إنه في يوم الاثنين،

في غزة،

في الثاني عشر من شهر تشرين الثاني،

للسنة السابعة بعد الألف الثانية،

كانت الشوارع مزدحمة بالأولاد..

كلهم ذاهب إلى المسيرة.

كانت البيوت يرفرف فوق أسطحتها علم واحد، بألوان أربعة..

وكانت الريح القادمة من البحر تحمل رائحة تنتفض لها أبدان الرجال،

في يوم الاثنين، في غزة،

أخذ الرجال يرون زوجاتهم بصورة مختلفة..

في يوم الاثنين، في غزة،

اكتشف الرجال كم هن جميلات زوجاتهم..

في يوم الاثنين، في غزة،

كانت النساء تفوح منهن رائحة الخصوبة..

في يوم الاثنين، في غزة،

كان الناس

يملأون كل الشوارع،

ويزرعون كل الأرض،

ويحلمون بورد أكثر احمراراً.

في يوم الاثنين، في غزة،

كان الناس يلوحون بأيديهم لبعضهم البعض.

وقد زينت وجوههم ابتسامات طالما كانت مفقودة.

في يوم الاثنين، في غزة،

نهض الشهداء من قبورهم ليشاركوا الأولاد في إحياء مهرجان الأرض.

في يوم الاثنين، في غزة،

زار كل شهيد بيته وقبل يد أمه وداعب شعر أطفاله…

ثم ذهب إلى بيعة القائد.

 

2: انشغال

القائد الذي كان راقداً بالأمس في ضريحه،

القائد المنتظر حتى الأمس في رام الله،

لم يكن يشغل باله سوى شيء واحد:

متى يعود إلى بيته في القدس؟..

القائد الذي كانت قد أخذته سنة من النوم،

صحا على صوت الأولاد.

ورغم كل المحاذير، خرج..

ورغم أنه كان يشعر بشيء من الخجل، كونه لم يتمكن من حبس دموعه،

فقد خرج..

خرج القائد من ضريحه في رام الله،

وتلقفته أكف الأولاد الصغيرة.

ومن هناك، من غزة،

من فوق رؤوس الأطفال،

رأى القائد بيته الجديد في القدس..

كل ذلك حدث قبل أن يأتي الجنود الملتحون،

ويطلقوا النار.

لكن القائد لم يمت، لسبب بسيط..

لم يمت القائد، لأن الأولاد أخفوه في قلوبهم،

بعيداً عن متناول طلقات الجنود الملتحين.

3: ربما

يوم الاثنين، في غزة،

في الثاني عشر من شهر تشرين الثاني،

للسنة السابعة بعد الألف الثانية،

الجندي المتدين،

أطلق النار على والده الذي يمشي مع (العلمانيين).

ربما لم يكن متعمداً..

ربما لم يره بوضوح.

ربما كانت اللحية الطويلة هي السبب..

فاللحية الطويلة كانت ـ ربما ـ قد ركزت نظراتها على (الراية الجاهلية)،

وربما لم تر ما تحتها..

وبما أن اللحية الطويلة ـ ربما ـ لم تعرف هوية الذراعين، التين ترفعان العلم،

لذا فقد أفادت الفتوى بأن الولد ـ بالتأكيد ـ لم ير أباه حين قتله..

وقالت الفتوى ـ في حيثيات الشرح ـ بأن مثل هذا حدث في الزمن الماضي..

وقالت الفتوى بأن المجتهد له نصيب من الأجر..

الجندي الملتحي شكر الله آخر الأمر،

لأنه سيحصل على عدد هائل من الحسنات،

لقاء قتله والده (العلماني).

في الحقيقة

فإن شريحة الـ(هارد ديسك)

كانت قد غذيت، الليلة الماضية، بمعلومات جديدة.

4: بعد حيضة واحدة

المرأة التي داستها بساطير الجنود الأتقياء،

كان عليها أن تحمد الله، في نهاية المسيرة.

لقد كان بإمكانها أن تكون سبية حقاً،

كما كان بإمكانها ـ بالفعل ـ أن تتهيأ للمسافدة بعد حيضة واحدة،

تمهيداً لإنجاب جنود من نوع فريد..

المرأة التي داستها بساطير الجنود الأتقياء،

حمدت الله مطولاً،

لأنها تمكنت من الرجوع إلى البيت في نهاية الاحتفال،

برحم ممزق،

وثديين مقطوعين..

المرأة التي داستها بساطير الجنود الأتقياء،

أدركت أخيراً

ـ لشدة فرحها ـ

أنها لن تنجب أولاداً بعد..

5: لحية

الرجل العجوز الذي كان يغذ السير في أعقاب المسيرة،

لم يخش الجنود المدججين باللحى والبنادق:

ـ أستطيع أنا كذلك أن أطلق لحيتي..

فهل يعني ذلك أنني أستطيع أن أكون مخيفاً إلى هذا الحد؟!.

هكذا حدث العجوز قلبه..

عندما أوقفه أحدهم،

مهدداً بضربه بالعصا الحديدية،

أدرك العجوز كيف يمكن للحية أن تكون كئيبة وبشعة وقاسية..

الرجل العجوز،

بعد أن عاد إلى بيته،

قال لزوجته، وهي تضع على رأسه الضمادة المضمخة باليود الحارق:

ـ عليّ أن أحلق لحيتي كل يوم مرتين.

6: تساؤل

الأطفال لا يموتون..

تلك حقيقة أزعجت كل أنواع الجنود:

جنود يغطون رؤوسهم بالخوذات الحديدية

جنود ملتحون،

جنود يعتمرون (الكيباه)…

كل أنواع الجنود،

كانوا مدركين أن الأطفال لا يموتون..

ـ تباً!. كيف يمكن لنا أن ننزل كل هذه الأعلام المرفوعة؟.

7: وفرة

في غزة يوجد اليوم كثير من الدخان.

في غزة يوجد اليوم كثير من الخبز.

في غزة يوجد اليوم كثير من العدل.

في غزة توجد اليوم وظائف أكثر من عدد المرشحين.

في غزة يوجد اليوم أسمنت وبناء وشقق كثيرة وزواج.

في غزة يوجد اليوم قليل من النوم.

في غزة يوجد اليوم كثير من اللحى:

شيء واحد غير موجود اليوم في غزة:

الخوف.

8: ملثمون

عصر كل خميس،

ينهض الشهداء من الأضرحة،

يزورون بيوتهم،

يقبلون أيادي أمهاتهم،

يطوفون على أطفالهم مطمئنين،

ثم يرجعون إلى الجنة.

سبعة شهداء لم يستطيعوا الوصول إلى بيوتهم يوم الخميس الماضي،

سبعة شهداء،

فقد كانت ثمة مجموعة من الملثمين تغلق الشارع.

لذا فقد قرروا الرجوع يوم الاثنين الذي يليه:

ـ يوم الاثنين كذلك يوم مبارك..

قال الشهداء السبعة لبعضهم البعض.

 

9: مجدداً

سلاماً أيها القائد..

أنت الآن في ضريحك،

ونحن في هذا الفضاء المسقوف بالحديد.

أنت الآن تتطلع إلى القدس،

ونحن نتطلع إلى قليل من الهواء، في هذا الجحر الموبوء بالأفاعي.

أنت الآن تلتقي الشهداء في الجنة،

والقذائف المكتوب عليها “لا إله إلا الله” ترسلهم إليك تباعا.

أنت الآن متلفع بالكوفية،

ونحن متلفعون بالجلابيات الباكستانية.

أنت وصلت إلى آخر النفق،

ونحن دخلناه، ولا نعرف لنا منه مخرجا.

سلاماً أيها القائد.

إنه في يوم الاثنين،

في غزة،

في الثاني عشر من شهر تشرين الثاني،

للسنة السابعة بعد الألف الثانية،

كانت الشوارع مزدحمة بالأولاد..

كلهم كان ذاهباً إلى المسيرة.

وكانت البيوت يرفرف فوق أسطحتها علم واحد، بألوان أربعة..

سلاماً أيها القائد

لا بد أنك قد عرفت الآن أنك في غزة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى