لا تتركوا المقدسيين وحدهم!

نهاد أبو غوش| فلسطين – عضو المجلس الوطني الفلسطيني

 

في شارع جميل ونظيف، يصل بين باب الخليل وباب الجديد أعلى حارة النصارى، والشارع مبلط بحجارة القدس المميزة ومحاذ لسور المدينة التاريخي، توقفت قليلا لتناول كوب من القهوة فدهشت من الهدوء المريب والصمت الذي لا يتناسب مع مدينة تضج بالحياة والتاريخ والحكايات. معظم المحال مغلقة، فلا حركة ولا سواح ولا حتى مشاة، سألت البائع عن السر فقال إن هذه هي الحالة منذ سنوات، حتى قبل الكورونا، وألمح إلى أن هذا مخطط مرسوم لقتل الحركة التجارية في القدس الشرقية، وإفراغ المدينة من سكانها، داعيا للمقارنة بين هذا الشارع وبين مثيله الذي لا يبعد سوى عشرات الأمتار غرب المدينة، حيث لا مجال للجلوس في أي مقهى هناك من دون الحجز المسبق لكثرة الزبائن وتزاحمهم.

شلل الحياة التجارية وكسادها في مدينة القدس هو مظهر جزئي من مظاهر الحرب على المدينة وهويتها وشخصيتها، ونتيجة مباشرة لسياسات التضييق والاقتلاع والتهجير والتهويد والأسرلة التي تنفذها سلطات الاحتلال حكومة وبلدية ومؤسسات وجمعيات استيطانية، والتي تهدف لحسم الصراع على مستقبل المدينة من خلال مراكمة التغييرات المادية والواقعية وفي مقدمتها تكريس الوقائع الاستيطانية، ودفع السكان الفلسطينيين إلى الهجرة الطوعية.

لقد نشأت المدن عبر التاريخ كأسواق ومحطات للتبادل التجاري بين مراكز الإنتاج والاستهلاك، ولاحقا تطورت فيها المراكز الحرفية والصناعية والخدمية ونشأت على اثر ذلك المراكز الثقافية والدينية ودور العبادة، وبالتالي فإن تطور المدن منوط بعلاقتها بمحيطها وريفها والمراكز الحضرية القريبة. في حين أن العلاقة بين مدينة القدس ومحيطها بترت بشكل قسري، وبقرارات سياسية سلطوية غاشمة عندما منع الفلسطينيون من دخول المدينة، وتمت إحاطتها بجدار الفصل العنصري، عدا عن الجدار الاستيطاني، فاضطر كثير من تجار المدينة إلى نقل أعمالهم إلى خارج الجدار، كما أرغم عشرات آلاف السكان، طوعا وكرها، على الانتقال للضواحي التي تضخمت بشكل عشوائي بسبب القيود المشددة، والكلفة الباهظة لتراخيص البناء والسكن في القدس.

حين يجري الحديث عن القدس، ينصرف الاهتمام إلى المقدسات والجانب السياسي المتصل بمستقبل المدينة والسيادة عليها، والصراع بين الحق الفلسطيني بكون المدينة هي العاصمة التاريخية المقدسة لفلسطين والفلسطينيين، والمزاعم الإسرائيلية عن “القدس الكاملة والموحدة” لدولة إسرائيل، كما تبرز معارك الدفاع عن المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية، مثلما جرى عند معركة البوابات الإليكترونية وباب الرحمة، والتصدي لمحاولة إحراق كنيسة الجسمانية، في حين أن قليلا من الاهتمام يذهب إلى المعاناة اليومية للمواطنين في حياتهم ورزقهم وسكنهم وصحتهم وتعليم أبنائهم، ولا إلى أمنهم الاجتماعي والشخصي في ظل انتشار المخدرات وغياب القانون، وتدهور أوضاع المؤسسات الوطنية وخطر إفلاسها أو إغلاقها وتصفيتها.

العالم كله، وبخاصة العالم العربي والإسلامي، ومن ضمنه الفلسطينيون، يتغنون بصمود المقدسيين، وينظمون القصائد والمدائح ويرددون المسلمات الوطنية اليقينية عن الحق الفلسطيني والعربي في مواجهة الباطل الصهيوني، من دون أن ينتبهوا إلى أنهم في الواقع يتفرجون على المعركة من خلال شاشات التلفاز والحاسوب، ويتركون مهمة المواجهة والتصدي للمقدسيين وحدهم من دون أن يوفروا الحد الأدنى من متطلبات الصمود واستحقاقاته المادية في مختلف المجالات.

عشرات القرارات اتخذتها الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي) لدعم القدس والمقدسيين ولكنها بقيت في معظمها حبرا على ورق، أما السلطة الفلسطينية وحكومتها فهي مقيدة بالاتفاقيات الموقعة مع الإسرائيليين، ومع الوقت نشأ نوع من التسليم الواقعي بمنع السلطة ومؤسساتها من العمل في القدس، حيث يكاد الحضور الفلسطيني الرسمي يقتصر على الجانب التمثيلي والوجاهي لنفر محدود من المسؤولين الأفراد، مع أن ثمة خيارات وافرة وواسعة لتنسيق أشكال وفعاليات عديدة لدعم صمود المقدسيين من خلال مؤسسات أهلية قائمة وأخرى يمكن تأسيسها بسهولة.

من المؤسف أن متمولا يهوديا صهيونيا واحدا، وهو إيرفينغ موسكوفيتش ساهم في دعم المشروع الصهيوني في القدس أكثر بكثير مما عملت دول عربية وإسلامية مجتمعة كما ونوعا، وقد تمكن من خلال عمله المنظم والمؤسسي الذي لا زال قائما وفعالا حتى بعد موته منذ أربع سنوات، من السيطرة على مجموعة كبيرة من العقارات، ودعم نوى استيطانية متعددة، وتقديم الدعم المباشر للمستوطنين، وتقديم حوافز تشجيعية وجوائز لمن يسهم في دعم وتقدم السيطرة اليهودية على القدس. صحيح أن موسكوفيتش هذا حظي بدعم وتشجيع حكومة الاحتلال وتسهيلاتها، لكن الأساس هو المبادرة الفردية التي نفتقدها لدى أثريائنا، والعمل المؤسسي المنظم الذي يبقى بعد موت صاحبه، في حين يتسم عملنا بالهبات الموسمية التي يزول أثرها مع زوال دوافعها وحوافزها.

سبق للرئيس الراحل ياسر عرفات أن حمى موقفه وموقف شعبه حين رفض ما يطالبونه به من تنازل عن القدس فعرضه على الزعماء العرب، وواجه بهذا الموقف إدارة كلينتون وحكومة باراك في حينه، متمسكا بمبدأ أن القدس ليست مدينة الفلسطينيين وحدهم بل مدينة العرب والمسلمين والمسيحيين في العالم، وهذا المبدأ ما يزال القوم يرددونه صباح مساء، لكنهم عمليا يكتفون بالفرجة على ما يفعل المقدسيون وحدهم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى