داخل الغرف المغلقة

رحاب يوسف  | فلسطين

 

واللهِ إنَّ أحَبَّ الساعات إلى قلبي تلكَ الساعةُ التي أقبِضُ فيها على مَقبَضِ بابي؛ لأختليَ مع اللهِ، وأمي، وقَلَمٍ يَنسِجُ كَلِماتي بكُلِّ يُسرٍ وسُهولَةٍ، دون تَعقيدٍ أو تَكَلُّفٍ، مُبتَعِدَةً عن وَحشيِّ الكلامِ وغريبِه، حتى لأشعُرَ بأنَّها تَتَعلَّقُ بأعناقِ بَعضها البعض تآلُفاً وانسجاماً، فما إن آخُذَ قَلَمي بين يَدَيَّ حتى يَشرَعَ بمُداعَبَةِ حُروفي المُتَدَفِّقَةِ، يُصيغُها لَبِنَةً لَبِنَةً، بتَسَلسُلٍ أدبيٍّ بديعٍ، وأسلوب رشيق , ومعنى عميق , وإحساسٍ مُرهَفٍ، وقلبٍ مُتَّقِدٍ، وفِكرٍ مشارِبُه صافيةٌ، ينبِضُ صدقاً، أُسافِرُ معه إلى كل قارّات العالم، دون أن أُغادِرَ مكاني قيدَ أُنمُلَةٍ.

أعزِفُ على الحُروفِ ببَراعَةٍ، ، أُحَمِّلُها ما لا تَحتَمِلَ، صانِعَةً أجمَلَ سِمفونِيَّةٍ، أُسقِطُها في أُذُن القارِئ ضمنَ مَفاهيمَ، وقِيَمٍ، ومَعارِفَ، فلتغَفرْ لي أيّها القارئُ زَلّاتي – إن كان هنالك زلّاتٌ – فأنا في سِباقٍ مع الزمن، ألا تسمعُ صوتَ ضَرَباتِ قلبي، ولُهاثي بين السطور؟ أجري بأقصى سُرعتي إلى أعماق نفسِكَ؛ لأضيءَ ما انطفأ، أُرَمِّمُ ما اهترأ، بكلماتٍ، ومُفرَداتٍ تُلامِسُ داخلَكَ، تكونُ مُؤَشِّرَكَ، وبوصَلَتَكَ في ظلمات أحداث الحياةِ، تنهضُ بمَعنَويّاتِكَ، وتَنتَشِلُها، وتصعَدُ بها إلى الأعالي والمعالي؛ لتُصبِحَ هامةً، وقامَةً، مُتَحَصِّنَةً نفسيّاً، وأخلاقيّاً، ودينيّاً، لا يُحَطِّمُها الوهمُ والوَهَنُ، أريدُ أنْ أُنعِشَ ثَقافَتَكَ وذائِقَتَكَ اللغَويَّةِ، وأرتَقي بِكَ إلى كتاباتي المَعجونَةِ بالشعورِ بيومياتِكَ وقضاياكَ الحياتيَّة!

أحيانا أكتبُ بتلقائيةٍ، وأحياناً بمَنطِقٍ وعلمٍ، نَصّاً إبداعيّاً كاملاً مُتَكامِلاً، أستدعي فيه كلَّ قُدُراتي وطاقاتي، من خلال عُصارَةِ التجارِب الشخصيّةِ والغيريَّة، نَصّاً يُخاطِبُ قلبَ القارئ وعقلَهُ، يُحدِثُ في نفسه إرباكاً وارتباكاً، يعيشُ تفاصيلَهُ، ينتَقِلُ مَعَهُ من حالٍ إلى حالٍ، انتقالاً نفسيّاً، وذهنيّاً، ووجدانيّاً، وفكريّا، إثرَ كُلِّ كَلِمَةٍ يقرَؤها، فيُعيدُ ترتيب أوراقِه.. وأحلامِه، وأهدافِه، يفتَحُ نوافذَ نَفسِهِ وأبوابها على العالم؛ ليكونَ أكثرَ حُريَّةً، أكثرَ عطاءً، أكثرَ قُدرَةً وتحمُّلاً، نَصّاً يُمسِكُ بيَدِ القارئ، ويأخُذُه من دربٍ ضبابيٍّ إلى درب اليقين والوضوح، إلى رِحاب الله؛ ليَميزَ الحَقَّ من الباطل، الفضيلةَ من الرذيلة، العدلَ من الظلم، الصواب من الخطأ، فيطرَحَ عن نفسِه كُلَّ ما يُثقِلُها ويؤذيها وراءَ ظَهرِه، من وساوسٍ، ومخاوفٍ، وضعف، وأحزانٍ.

عرفت أنَّ كَلِمَةَ الحَقِّ تُزعجُ بعض النفوسِ المُقَنَّعَةِ بقِناع الزيف، والجهلِ، والنفاق، والتعالي، لكنّني علمتُ أيضاً أنه لا يستطيعُ أحَدٌ اغتيالَها، أو إيقافَ جَرَيان مِدادِها؛ لأنني أحملُ بين جَنبَيَّ رسالَةً مُتَشَبِّثَةً بها، وقضيةً أدافعُ عنها، كلمةَ الحقِّ أقولُ، وأمشي وإن كان المَشيُ على حَدِّ الشفار؛ فالمُفرَدَةُ التي فيها كلُّ المَوعِظَةِ، وكُلُّ التربيةِ، وكلُّ الكلام، غاليةٌ كالحُرِّيَّةِ، تَستَحِقُّ أن أدفَعَ نفسي ثَمَناً لها.

لا يَهُمُّني إن طَوَيتُ الأرضَ شَرقاً وغَرباً وحدي، بعيدةً كليّاً عن الزِّحام، فأنا اخترتُ الانحيازَ للضعفاءِ، للفقراء، للمظلومينَ ضِدَّ أبالِسَةِ الإنسِ والجِنِّ، ففي جميع الأحوال قولُ الحقيقةِ كالسباحَةِ وسطَ الأمواج المُتَلاطِمَةِ، لا شيءَ معي في لُجَجِها سوى نورِ الله، وكَلِمَةٌ أُرَبِّتُ بها على كَتِفِ امرئٍ قلبُه طَيّبٌ، شَكَّكوهُ بأنَّ صِفَة الطّيبةِ صِفَةُ الدراويش، وكأنّهم يُعاقِبونه؛ لأنَّه يَعيشُ في عالمٍ عُلويٍّ مُختَلِفٍ عن عالِمِهم السُفليِّ، ولأن وَهَجَ نورِ وَجهِهِ يَعمي عُيونَهم، يُفزِعونَهُ بما يراهُ على صَفَحاتِ وجوهِهِم الراكِدَةِ من صَفَعاتٍ تَلطُمُه، يَقرأُ في نظراتِ عُيونِهم رسالةَ الكُرهِ والعداءِ ثمنَ صفاءِ رُوحه البلوريَّةِ.

هذا الدرويشُ الذي في نَظَرِهم أبلهُ، هو الوحيدُ الذي يَنسَجِمُ داخِلُه مع الطبيعة، تتناغَمُ روحُه مع جَمالِها، يعيشُ بين نُكرانٍ واعتراف المُجتَمَع، اختاروه ليَسخَروا منهُ؛ لإسعادِ أنفُسِهِم، يحتَقِرونَهُ بكلِّ جَبَروتٍ وقَسوَةٍ، يُقامِرون بمَشاعِرِه، ويلعَبون بها، وهو لا يُحَرِّكُ ساكناً؛ لأنه مُقَيَّدٌ بطيبَتِه، ولا يستطيعُ التَّمَرُّدَ عليهم.

أعلم أنَّ مَهَمَّتي ليست سهلةً؛ لذا وضعتُ نُصبَ عَينيَّ أنَّ الدربَ طويلٌ وشاقٌّ، مَحفوفٌ بالأشواكِ، والكلاليبِ، والأوغادِ، وفي مُنعَطَفاتِه سيُصيبُني الوَهَنُ والضعفُ، وسيتعثر مسيري، لكنني أحاول المُضِيَّ بحِكمَةٍ وهدوءٍ، أحمِلُ على عاتقي أفكاري، أتَقَدَّمُ بخُطُواتٍ واثِقَةٍ، وإن كانت بطيئةً، على يقينٍ أنني سأصِلُ، غارِزَةً غَصَّةً في حَلقِ كُلِّ مَن يُحاوِلُ إفسادَ طُهرِ النَّفس، ولا يكتَرِثُ بما يصنَعُ بكسيري النفوسِ، الذين هُم كالنوارِسِ على شواطئ المنافي، غُرَباءُ هَجَروا المواسِمَ والفصولَ، إلا مَوسِمُ اللا شيءَ، يُسامِرونَ فضائِلَهُم في ليلٍ طَويلٍ، مُتَدَثِّرين بحُبّ الله، لا يَضُرُّهم مَن يُخالِفُهم.

التعبُ الذي أنتَ فيه الآن ما هو إلا طريقٌ لراحَتِكَ، وكلُّ الأماكِن التي خرجتَ منها مُنكَسِراً، ستعودُ إليها مُنتَصِراً، ولنا في قِصَّةِ سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – عِبرَةٌ، بعد أنْ هاجَرَ من مَكَّةَ عاد إليها فاتحاً، لكن عليكَ أن تكونَ مُؤمِناً، ثابتاً، مُطمَئِنّاً، مُتَيَقِّناً أنّكَ مُنتَصِرٌ لا محالةَ، وإن كانت كلُّ المُعطَيات تقولُ لك إنّكَ هالكٌ، اقفل بالأقفال كُلّ الغُرَف التي تألَّمتَ فيها، وغادِرْها مُنطَلِقاً تحتَ أيِّ ظرفٍ، دون أن تُعاقِبَ نفسَكَ، وتُحَمِّلها ذنبَ التَّعَلُّقِ الزائفِ القائمِ على الخِداع، في طريقِكَ نحو السعادةِ، انسَ مَن امتَدَّتْ أظافِرُهُ الحراريّةُ إلى أعماقكَ؛ لتقتَلِعَ أمَلَكَ، طُموحَكَ، فرحَتَكَ، إنجازَكَ، لا شيءَ يستَحِقُّ أن يستَنزِفَ تفكيرَكَ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى