مركزية المكان في رواية ” الجد الثاني السيد هاشم بن عبد مناف” للروائي الفلسطيني نبيل العريني

رائد محمد الحواري | فلسطين

 

 

 

 

 

 

 

 

من جمالية النص الروائي وجود عدة مسارات وأحداث وعدة شخصيات مركزية فيه.مما يعطي الرواية شكلا ومساحة أوسع، ويُشعر القارئ أنه في عالم روائي حقيقي. كتلك العوالم التي نجدها في الروايات الكلاسيكية.

كان يمكن للسارد العريني أن يجعل لكل شخصية من الشخصيات كــ “كنه، هاشم، أيمن” رواية مستقلة، لكنه غير مغرم بالدخول في (زحمة النشر وكثرته). لهذا ارتأى أن تكون روايته مميزة، فجمع ثلاثة أحداث مختلفة وعدد من الشخصيات المركزية في عمل روائي واحد هو “الجد الثاني السيد هاشم بن عبد مناف”.

واللافت أن العريني يجعل المكان غزة القبلة التي يلجأ إليها كل من “كنه” و”هاشم بن عبد مناف”، رغم تباين أهدافها ودوافعها في التوجه إلى غزة.

الأول للبحث عن قبر أبيه وجده ومعرفة أسباب قتلهما، والثاني لإقامة اتفاقيات تجارية (دولية) بين الجزيرة العربية والروم البيزنطية. فهناك أحداث غارقة في القدم، 497 ميلادي. وأحداث معاصرة متعلقة بــ “أيمن عمارة” أحد شخصيات المكان المركزية. الذي تجذبه رائحة المخطوطات القديمة في مكتبة بلدية غزة. فهذه التوليفة بين أحداث وأزمنة وأماكن وشخصيات مختلفة تبين قدرة السارد على تقديم مادة روائية متميزة.

لقد استطاع السارد أن يجعل المخطوطة (وسيلة وأداة) يستطيع منها الولوج إلى التاريخ القديم، لتبيان أهمية ومكانة “غزة”، سيما أن حجم المعلومات التاريخية في الرواية كبير جدا، وكان من الصعب على القارئ الاطلاع عليه بصورة مباشرة، وذلك لعزوف العديد من القراء عن المواد المباشرة من جهة، وهيمنة عالم الرواية من جهة ثانية، وبما أن تلك المعلومات قدمت بطابع روائي ناعم وسلس فبالتأكيد ستكون راسخة في الذهن والعقل أكثر.

من هناك يمكننا القول إن السارد في رواية “الجد الثاني” يمارس عملية تعليم حديثة. تعتمد على تقديم المعلومة بوسائل أدبية، من خلال عالم الرواية، بعيدا عن التلقين المباشر، وأعتقد أن هذا الأمر بحاجة إلى التوقف عنده من قبل وزارة التربية والتعليم لأهميته. حيث لكل عصر أدواته ووسائله وطرقه في التعليم، فــ الجمع بين مواد معرفية وتعليمية وعمل روائي يسهل على المتلقي الوصول لتلك المواد، وفي الوقت ذاته ترسخ في عقله أكثر.

وهنا ننوه إلى الروائي الفلسطيني “أسامة العيسة” الذي حملت رواياته العديد من المعلومات والأحداث والشخصيات التي لا يمكن للمتلقي أن يصل إليها دون قراءة تلك الروايات، فــ علم الرواية قابل وقادر على تحمل (عبء وهموم) التعليم، وقادر على تسهيل إيصال المعلومات والأفكار والأحداث للقراء والمتعلمين بطرق حديثة وغير مباشرة.

شكل تقديم المادة التاريخية

إذا وجد السارد العريني الطريقة والوسيلة الأدبية المناسبة، فإنه يستطيع أن يُحمل العمل الروائي أحداث وأفكار وأماكن وأزمنة وشخصيات متعددة. ويستطيع أن يقدم كل ما يريده في الرواية، يستخدم السارد “المخطوطة” كوسيلة تدخله إلى الزمن الماضي، لكن هذا الاستخدام بحاجة إلى طريقة (مقنعة) للقارئ..

اقتباس:

“ـ أليس هذا كتاب السيد هاشم..؟

ـ نعم هو السيد هاشم بن عبد مناف الجد الثاني لرسول الله محمد (ص)

ـ ولكن كيف عرفت وأنت لم تر الغلاف؟!

ـ أنا هنا منذ ثلاثين عامل وأعرف جميع الكتب في المكتبة، ولا أحتاج للنظر إلى الأغلفة حتى أنني أعرف الكتاب الذي تقرأ، يكفيني فقط ان أشم رائحته، أو النظر إلى أيً من صفحاته” ص 9.

بهذا الشكل المقنع استطاع السارد أن يدخلنا إلى عالم التاريخ وما فيه من أحداث. فهو يركز على علاقة صاحب المكتبة بالمكان، وما فيها، حتى أنه أنشأ علاقة (روحية) خارقة بينه وبين مقتنياتها، لهذا يستطع أن يعرف الكتاب من خلال الرائحة، أو من خلال الاطلاع على صفحة واحدة من صفحات الكتاب.

وإذا ما توقفنا عند الزمن الذي أنشأ تلك القدرات العجيبة والخارقة عند صاحب المكتبة. والذي حدد بثلاثين سنة، يمكننا اسقاطه على علاقة صاحب فلسطين بالمكان “فلسطين”. والذي يمتد لآلاف السنين، بمعنى: أن السارد مهد القارئ ـ بطريقة غير مباشر ـ لعبور الزمن وسبر أغوار المكان والدخول إلى أحداث التاريخية، فإذا كانت ثلاثين سنة أوجدت هذه العلاقة الروحية بين صاحب المكتبة والكتب، فكيف ستكون علاقة الفلسطيني بالمكان والتي تمتد آلاف السنين؟.

الزمن

تم تحديد زمن الأحداث على غلاف الرواية 497_ميلادي” .. لهذا سنجد الحديث عن الدين في ذلك الزمن اقتباس: “مع أن كنه شاب يافع، كنعاني الطباع، عربي الذهن والعادات … وبعد أن أصبح عمره عشرين عاما فإنه إلى الآن لم يؤمن بأن عيسى بن مريم ربً يجب عليه حتما عبادته والامتثال له… وكنه لا يستطيع الإفصاح عن هذا المعتقد أمام أحد من الناس” صــ11.

يأخذنا السارد إلى هيمنة الفكر الديني على المجتمع، بمعنى أن كل من يخالف أو لا يؤمن بدين المجتمع، هو كافر ويستحق العقاب أو الموت، فالفرد في المجتمع لا يقدر أو يستطيع أن يبدي عدم قناعته أو اختلافه مع المعتقدات السائدة، فــ التماثل مع معتقدات المجتمع وصعوبة الاختلاف معها، حالة عاشها الأفراد في كل المجتمعات والأزمنة.

“كنه” يفكر بالخالق وبالكون بطريقة مستقلة عن المجتمع، يوضح أفكاره من خلال محاورته لــ “أشر” اقتباس : ” لا يمكن أن أفهم أن يكون الرب العظيم الكبير القوي في حاجة إلى ولد حتى يرثه، أو يقوم في شؤونه من بعده، ولو كان هذا الافتراض ممكنا، لافترضنا قبله أن الرب يموت، أو ينام، او يمرض، لهذا جاء بابنه ليقوم عنه أو بعده بأعماله، فالرب يا سيد أشر الذي يطعم كل تلك العصافير ويسقي كل تلك النباتات، ويكسي كل تلك الارض، لا يمكن أن ينام أو يمرض أو يموت” صــ 50.

الحكمة التي يتحدث بها “كنه” تجعله مختلف عن عصره، فهو يتميز بقدرته على التفكير المستقل عما هو سائد، وهذا التميز متعلق بالأفراد وليس بــ الجماعات، لهذا نجده صادر عن كنه ” فقط، وليس عن جماعة أو فئة.

لكن هناك زمن آخر متعلق بــ “أيمن”، من هنا نجد حضور للآيات القرآنية في أكثر من موضع: اقتباس “ربي إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يرجعون” صــ 57. والسارد لا يأتي بالآيات هكذا، بل يجعلها ضمن حوار يدور بين شخصيات الرواية:

اقتباس: “لماذا اختفت هذه التسميات والأسماء بعد الإسلام فلم يعد أحد يسمي بها أولاده، هذا يعني أن عبد المطلب لم يكن موحدا بل كان على ديانة قريش، وما يؤكد ذلك هو ما كانت تحاجج به قريش النبي عندما كانت تقول بما معناه أنك انقلبت على ديانة آبائك وأجدادك، وما تقوله الآية القرآنية “وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ” الضحى:7، وآية أخرى (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) الشورى:52.

البعض يميل إلى اتباعهم ديانة الحنفية، لكن المتعارف عن هذه الديانة أنها أصبحت محرفة في زمن قريش” صــ 76.

بهذا الشكل استطاع السارد أن يجمع زمانين مختلفين ومتباعدين، لكن دون أن يُحدث خلل في بنية الرواية، وأعتقد أن محور الحديث المتعلق بالدين جعل وحدة الموضوع تسهم في إزالة الهوة الزمنية في الرواية.

 

المكان

ثلاثة شخصيات رئيسة في الرواية “كنه، هاشم، أيمن” تتجه نحو غزة أو متواجدة فيها. ورغم عدم وجود روابط بينها إلا أن المكان يجذبها ويجمعها. “كنه” أبوه كنعاني وأمه عربية والذي يسعى لمعرفة أسباب مقتل أبيه وجده. وهاشم القادم من مكة للتجارة وإبرام اتفاقيات تجارية. وأيمن الباحث عن المعرفة في مكتبة بلدية غزة، “كنه وهاشم” يخرجان من أعماق التاريخ، “497 ميلادي” و”أيمن” يحدثنا من هذا العصر وهذا الزمان، فالزمان بعيد لكن المكان يجمع و يوحد ويقرب الأحداث والشخصيات.

وهذا هو محور الرواية، كل المتغيرات من أشخاص، أحداث، زمن، تتوحد – تتجه – ترتبط بالمكان ومتعلقة به. فــ الجغرافيا هي مركز كل شيء، وعندما خرج “هاشم” من مكة المقدسة إلى غزة. كان يُراد به التأكيد على أهمية ومكانة وعظمة غزة، السارد يبين هذا الأمر من خلال: ” تقديم اللوحات واحدة بعد الأخرى، يطالعهما بتمعن شديد، يغوص في جدران وفستات المكان.

اقتباس: “كأن روح العالم ثقبت، وصار هذا المكان كله ليس بعضا من العالم، بل العالم بجدرانه الأربعة، يشعر أيمن أنه يسافر في الزمن، أو أنه دخل صندوقا للعجائب، يتلفت باحثا عن الجدار الذي وراءه السرداب، والذي أخبره عنه السيد عادل، أمين مكتبة بلدية غزة، ووجدا وراءه المخطوطات التي كان يقرأ فيها، يوقن في نفسه دون أن يساعده أحد أنه يجلس داخل أمسية شعرية لــ صالون أدبي يقال له طوقان.

اقتباس: ” إن زيارتي للبيت قد نقلتني داخل آلة الزمن إلى الوراء” هذه هي وظيفة المكان التاريخية” صــ 198 إلى 200.

فالثابت هو المكان – الجغرافيا لهذا يبقى حاضرا، والمتغيرات والناس، الأحداث، الزمن، بما أنها متعلقة بشيء ثابت ودائم فستكون جزء من تاريخ المكان وحضوره، هذه فلسفة الرواية، إن كان هناك شيء ثابت “المكان” وأخرى متغيرات أحداث، أشخاص، زمان، فأن وجودها وحدوثها على أرض صلبة – ثابتة فإنها ستكون – متأثر بهذا المكان – الإثبات.

في هذا المشهد يتم محو كل المتغيرات، زمان، الأشخاص، الأحداث:

اقتباس : “يدخلون السوق ويجري عليهم ما جرى على كنه والتاجر إبراهيم من حجز ومكوس ومحتسب، ثم يسيرون إلى الخان بخيولهم وأمتعتهم تاركين رحل بضاعتهم والبعير في مأمن السوق يمرون من نفس الطريق التي كان قد سلكها أيمن في شارع الوحدة بزمننا هذا، وهي نفس الطريق التي سلكها كنه مع شخصية إبراهيم الخليلي بينما ليس في الطريق مكتبة، ولا محال تجارية تبيع العدة والدهان والبراويز والأسماك والطيور الملونة، يدخلون الخان وتسر عليهم سنة الأولين ممن سبقوهم في الدخول، يأخذون طرفا في الخان، يقتض بهم الخان لكثرتهم عليه، فيأمر هاشم أن تضرب الخيام للبقية من معهم من الرجال” صــ 243 إلى 244.

بهذا الشكل استطاع السارد أن يقدم أهمية غزة ومكانتها في الماضي والحاضر. ولكنه لم يقدمه بصورة جامدة بل من خلال مشهد أدبي مفعم بالحياة. فــ سلاسة وطريقة تقديم الفكرة ـ أهمية المكان وحضوره ـ تتماثل مع سلسلة الشكل الأدبي وسهولته، فهناك ربط بين الفكرة والطريقة التي قدمت بها، وبهذا يكون السارد قد أوصل فكرته بأكثر من طريقة بــ المعنى العام، والشكل – الأسلوب الأدبي.

ومن مشاهد اجتماعية المكان ودوره في توحيد الناس بصورة اجتماعية.

اللقاء الذي يتم بين “كنه وهاشم”.

اقتباس : ” من هذا يسأل هاشم؟

إنه كنه بن النجار، كنعاني من أم عربية، أهلا يا قريبي يقول هاشم لكنه، يتهدج وجه كنه بالفخر، ثم يسأله هاشم من أمك ..؟ فيرد قائلا: إنها قامته بنت زعل العربية يا سيدي.

“أنعم وأكرم يا كنه، إنني أعرف جدك فإنه من خزاعة وأنتم أقرباء لنا، أهلا بك يا كنه”

“أهلا بك يا سيدي، لقد كنت أتوق لقائك مما سمعته عنك من أفواه الرجال” صــ 257.

من هنا يمكننا القول أن الرواية هي رواية مكان، لكنه ليس مكان جامد، بل مكان حي.

مكان يستطيع أن يوحد الناس والأشخاص رغم الهوة الزمنية بينهم.

ويستطيع أن يجمع الأحداث رغم تباينها واختلافها.

لهذا هو المركز والمحور الذي علينا التوجه له.

الرواية صادرة عام 2020 ومشاركة في جائزة كتارا للرواية العربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى