أدب

أثرُ اللغة العربية في الإنجليزية والفرنسية

أ. سعيد مالك | معلم لغة عربية
تبدو اللغة العربية، في ظاهرها، لغةً ذات حروف منقوشة كالعقيق، وأصواتٍ تهبّ من قلب التاريخ، غير أنّها في حقيقتها سفيرة حضارةٍ كاملة حملت إلى الدنيا علومًا وفنونًا وفكرًا ومفرداتٍ سكنت ألسنة الأمم، حتى غدت جزءًا من نسيج لغاتها. ولئن كان الزمن قد باعد بين العرب وبين كثير من أدوارهم الحضارية، فإن آثار العربية بقيت حيّةً في لغات عالمية كالإجليزية والفرنسية، تشهد كل كلمةٍ دخيلة فيها على عصر كانت فيه الأمة العربية مصدر النور والمعرفة.
لقد امتد تأثير العربية عبر طرق التجارة والرحلات العلمية والترجمة، من بغداد إلى الأندلس، ومن القاهرة إلى صقلية، حتى بلغت كلماتها قصور أوروبا وأسواقها ومختبرات علمائها. وليس هذا التأثير مجرد مصادفة لغوية؛ بل هو دليل حضاري على أنّ العربية كانت لقرون طويلة لغة العلم والفكر والفلسفة والطب والفلك والرياضيات.

العربية والمنهج الأوروبي في التفكير العلمي
قبل الدخول في المفردات ذات الأصل العربي، يجدر التذكير بأن التأثير لم يكن لفظيًّا فحسب، بل فكريًّا أيضًا. ففي العصور الوسطى كان الأوروبيون ينظرون إلى بلاد العرب بوصفها خزائن للعلوم، فكانت كتب ابن سينا والزهراوي والبتّاني والخوارزمي تُدرَّس في جامعات إيطاليا وفرنسا، وتُرجَم إلى اللاتينية، ثم تنتقل إلى اللغات الأوروبية الحديثة.
لقد تشرّبت أوروبا الكثير من المصطلحات العلمية عبر هذه الترجمات، فأدخلتها في علوم الرياضيات والفلك والطب، وفي وصف النباتات والعقاقير، وفي الملاحة والخرائط الجغرافية. ومن الطبيعي أن تحمل الكلمات المترجمة معها روح لغتها الأصلية، فتظل شاهدة على مصدرها العربي.
أولًا: الكلمات العربية في الإنجليزية
لا تقل اللغة الإنجليزية – رغم قوتها اليوم – عن غيرها تأثرًا بالعربية. ومن اليسير أن يجد الباحث عشرات المفردات ذات الجذور العربية، لا سيما في العلوم والطب والنباتات والتجارة.
1. Algebra – الجبرتأتي كلمة Algebra من كتاب “الجبر والمقابلة” للخوارزمي، العالم الذي أحدث ثورة في الرياضيات. ولا تزال كلمة الجبر تُكتب في الإنجليزية كما تُنطق تقريبًا في العربية، مع الاحتفاظ بحرف التعريف “al” شاهدًا على الأصل.
2. Algorithm – الخوارزميمن اسم العالم محمد بن موسى الخوارزمي نفسه. والخوارزميات اليوم هي أساس الذكاء الاصطناعي والبرمجة والكمبيوتر، ومع ذلك تحمل اسمًا عربيًا صريحًا، دليلًا على فضل حضارتنا في هذا المجال.
3. Coffee – القهوةمن العربية إلى التركية ثم الإيطالية والإنجليزية. والعجيب أن كلمة coffee تذكّر كل من ينطقها بأن العرب هم من كانوا أول من زرع البن، وأول من صنع منه شرابًا يوقظ الفكر.
4. Sugar – سُكّرانتقل الاسم والنبات معًا؛ فقد طور العرب صناعة السكر، وصدّروه إلى أوروبا. وما تزال كلمة sugar تلفظ قريبًا من “سكّر” العربية.
5. Cotton – قطنأخذ الأوروبيون القطن من العرب اسمًا ومادة، إذ كان العرب من أوائل من عملوا في زراعته وغزله في مصر واليمن، فأصبح الاسم ملازمًا للمنتج في اللغات الأوروبية.
6. Admiral – أمير البحرمصطلح بحري عربي الأصل “أمير البحر”، انتقل مع النهضة العربية في الملاحة والموانئ، وتحول في الإنجليزية إلى Admiral، الذي يستخدم اليوم للدلالة على أعلى الرتب البحرية.
**7. Lemon – Orange – Saffron
ليمون – نارنج – زعفران** هي أسماء عربية صريحة، انتقلت إلى أوروبا مع تجارة النباتات والعطارة، وبقيت كما هي تقريبًا في معظم لغات العالم.
ولا تقف القائمة عند هذا الحد؛ فهناك كلمات أخرى مثل magazine (من مخزن)، وsofa (من صُفّة)، وnadir وzenith في الفلك (نظير وزُنّه)
ثانيًا: الكلمات العربية في الفرنسية
الفرنسية أكثر اللغات الأوروبية تأثرًا بالعربية بعد الإسبانية؛ وذلك لقرب فرنسا من الأندلس وصقلية، ولعلاقاتها التاريخية مع العالم العربي.
1. Zéro – صفرمن أهم المفردات العلمية التي نقلت من العربية. فالرقم صفر – على بساطته – غيّر مسار الحساب الأوروبي تمامًا، وفتح الباب لنظام عدّ جديد.
2. Matelas – مطرَحالكلمة مأخوذة من “المطرح” أو “المطارحة”، وهو الفراش العربي المعروف. ومع انتقال الثقافة المنزلية العربية إلى أوروبا، انتقلت معها الكلمة.
3. Café – قهوةكلمة عربية البيئة والمنشأ، دخلت الفرنسية قبل الإنجليزية، وما تزال تُكتب وتُنطق بشكل قريب من أصلها.
4. Sucre – سُكّركحال الإنجليزية، يعود المصطلح العربي إلى فضل العرب في نشر زراعة قصب السكر وصناعته.
5. Tasse – طاس / طاسةارتبطت بالأواني المعدنية والفخارية العربية. وهي من أوائل الكلمات التي انتشرت عبر طرق التجارة.
6. Guitare – قيثارةآلة عربية الأصل، انتقلت إلى أوروبا عبر الموسيقى الأندلسية، وأخذت معها اسمها. وليس غريبًا أن يجد الباحث في القواميس الفرنسية مئات الكلمات الأخرى ذات الأصول العربية، خاصة في مجالات الفلسفة والطب والكيمياء والفلك.
ثالثًا: العربية جسر الحضارات وذاكرة العلم
إن هذه المفردات، المنتشرة في لغات العالم، ليست مجرد مواد لغوية، بل نقوشٌ حضارية تروي قصة ازدهارٍ طويل للعرب في ميادين العلم. ولولا قوة العلم العربي في القرون الوسطى، ما كان لتلك الكلمات أن تعبر البحار وتستقر في لغات العالم بأسره.ففي الأندلس، كان الطلاب الأوروبيون يتوافدون لتعلم الطب والهندسة والفلك، ويعودون إلى بلادهم محمّلين بالمعرفة العربية ومصطلحاتها. وفي بغداد، كان بيت الحكمة شعلة ترجمةٍ مضيئة، أصبحت لاحقًا مصدرًا للنهضة الأوروبية. وفي القاهرة ودمشق وقرطبة ازدهرت المدارس والمراصد التي أسهمت في ولادة علم الفلك الحديث.وقد بقيت أسماء النجوم حتى اليوم عربية: Altair (الطائر)، و(Deneb الذنب)، Betelgeuse (بيت الجوزاء)، وهي أمثلة على دور العربية في صياغة علم السماء. إن الكلمات الإنجليزية والفرنسية ذات الأصل العربي ليست حروفًا عابرة، بل هي شهودٌ ناطقة على حقبةٍ كان فيها العرب رواد العلم وقادة الفكر. وهي دليلٌ على أنّ اللغة العربية، بما تحمل من ثراء ودقة ومرونة، قادرة على أن تكون لسانًا حضاريًا عالميًا، وأن تُلهم أمم الأرض كما ألهمت أوروبا بالأمس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى