حكايا من القرايا.. ” ميّاته ع النار “
د. عبد الرحمن نمر | فلسطين
من أول ما وعيْت على الدنيا، وأنا أسمعهم ينادونه ” اللي ميّاته ع النار “
أبو العبد ولد زمن الإنجليز، ورأى فن الإنجليز في تعذيب البشر، وعاش الهجرة، ورأى الناس وهم يحملون أولادهم وبقجاً، ويفرّون في فضاء الله، وعايش الضفتين، والنكسة، وتعاظم اللجوء، وسُجِن أولاده زمن الاحتلال، وها هو يحيا في ظل السلطة والوطنية الفلسطينية. رجل أعطاه الله عمراً فوق عمر… كما متّعه الله بعقل لا ينسى، فهو أبو تاريخ المنطقة، يعرف متى ولد فلان؟ ومتى تزوجت فلانة؟ ومتى؟ ومتى؟ كما يعرف ملكية الأراضي وحدودها، فهذه الخَلّة لفلان، وهذه التلّة لعلان، وهذا القطان اشتراه البيك بصاع ذرة… رجل طويل، وجهه واسع أشقر، عيناه كعيني صقر، كفّاه كبيرتان، مبتسم دائماً.
أبو العبد ميًاته ع النار، يعني إنه يجهز للموت ويستعد له، وها هم يسخّنون له الماء كي يحممونه الحمّام الأخير… طول عمري وأنا أسمع هذه العبارة، وطول الوقت وأهل البلدة يسألون الرايح والجاي عن (أبو العبد) وصحة (أبو العبد) وكأنهم ينتظرون خبراً يعلمهم بموته، فيجيب السائل: الزلمي مستوي، ميّاته ع النار، الله يرحمه ويرحمنا…
قبل خمس سنوات، تداعى الأهل والأقارب إلى بيت (أبو العبد) كما أُخْبِر أولاده في الخارج أن الوالد في خطر، فهرعوا مسرعين لحضور وفاته، وقسمة الميراث قبل أن يبرد… واجتمعت أمة لا إله إلا الله في البيت، وأبو العبد دايرينه على القبلة لا من ثمّه ولا من كمّه، وكلما أنّ أنّة أو تحرك بعد سكون… ظنوه في النزاع الأخير… فيشير إلى شربة ماء، أو حبات عنب، كان الرجل يعشق العنب، وكان موسمه، فيدلون حبة… حبتين… ثلاثة في فمه، ويستكفي وينام…
وانتظر الجمع موت الرجل، والرجل ميّاته على النار، كأنها تسخن وتتبخر ويؤتى بغيرها… ولما لم يَئِن ما جاؤوا لأجله، تفرقوا إلى دورهم وأعمالهم…
أبو السعيد: السنة الولد توجيهي، وبدنا نعمل له حفله، بس خايفين يصير للزلمة إشي، الزلمة ميّاته ع النار… وأم خلدون: الله يهدي بالنا، وما يصير شيء قبل صمدة هالبنت، قلنا للعريس خذها بدري، الله يسامحه تأخر، خايفين يصير له إشي، ميّاته ع النار…وكأن الحزين أبو العبد هو من يعطي تذاكر السماح بالفرح والاحتفال… وعندما خطب أبو سميح لولده وعلّل ليالٍ ثلاث، ومرت على خير، حمد الله، وقال: مرت على خير، والله كانت إدينا على قلوبنا إصير لهالزلمي إشي… ردّ عليه الحج علي: يا رجل مهو كبير، الله يرحمنا برحمته، وشبعان من عمره، وموته ما بوقّف خطبة أو عرس… هزّ الرجل رأسه، وقال: والله الراديو ما بقينا نفتحه لأشهر بس واحد يموت… ولا عرس، ولا خطبة، ولا حتى ابتسامة…
و(اتنشوش) أبو العبد، والله زاد في عمره، صار يوكل ويشرب ويكسدر بذيال الدار، وكبّ ميّاته اللي ع النار…والناس مستغربة، وتقول: صحيح، إنّو الشدّة ما بتقرّب أجل… ما شاء الله، وركب اللي مياته ع النار حمارته، واتجه نحو أرضه، ومعه كلن ماء، ليسقي غرسة قاربت على الموت من عطشها، طرح السلام على الجالسين الذين يتسلون في الحارة، وانطلق… لكن الناس كلهم في سيرته، وانطفى اسمه الأصلي بين الناس، وصاروا ينادونه فيما بينهم ” اللي ميّاته ع النار”… أجا اللي ميّاته ع النار… وراح اللي ميّاته ع النار… قال اللي ميّاته ع النار… وما حدا بعرف منيته وينتا؟ وياما سخول سبقت امياّتها ع المسلخ…
سامحني يا أبا العبد… اليوم جبت سيرتك لأني بحبك… الله يطوّل بعمرك…