قصص فلسطينية مجهولة في كتاب ” الذاكرة الحيّة ” لـ” أحمد جربوني “
زياد شليوط | شفا عمرو – الجليل – فلسطين
أهداني مؤخرا الكاتب والناشط الاجتماعي والسياسي، السيد أحمد جربوني كتابيه “الذاكرة الحيّة” و”فهود الروابي”، بعدما التقينا على حب الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر، حيث وضع كل منا كتابا في هذا الزعيم الاستثنائي.
سأتوقف هنا على عجالة مع الكتاب الأول، وهو أحدث كتب المؤلف حيث صدر العام الماضي. لقد قرأت الكتاب بنهم وعشت قصصه لما تحمله من رسائل وطنية وحدوية، ولما تنقله للأجيال من بطولات ومآثر الأجداد، ولأن “هذا الكتاب يقدم جانبا هاما من الرواية الفلسطينية في مواجهة الرواية الإسرائيلية المتنكرة لكل حق فلسطيني في هذه البلاد”، كما جاء في الكلمة الافتتاحية للكاتب ناجي ظاهر، الذي أشرف على مراجعة مواد الكتاب.
يستقي أحمد جربوني وكما يشير في مقدمة الكتاب، مواد القصص من الناس وكما تناقلها الخلف عن السلف، وهي تروي لنا أحداث ومواقف واقعية وقعت في فترات الاستعمار العثماني وبعدها البريطاني وهي تضيء على تاريخ شعبنا من الزاوية الوطنية حيث تؤكد على العيش المشترك والوحدة الصلبة بين أبناء الشعب الواحد بكل مركباته وخاصة بين جناحيه المسلم والمسيحي، وكذلك في حماية الأرض والعرض، والدفاع عن القرى العربية، والانخراط في النضالات الوطنية والتمسك بعروبة الانسان والوطن.
والأهم أن كاتبنا اهتم بالكشف عن شخصيات ليست مشهورة وأهملها المؤرخون كما يقول ” وجهلها العديد من أهلنا إلا أنها عاشت في وجدان الجماهير لما قامت به من أعمال ولما كان لها من مواقف وتضحيات”. (ص 12) ومن هنا تكمن أهمية الكتاب وما يضمه من قصص وطنية وإنسانية لأشخاص وقادة تمتعوا بأخلاق عالية إلى جانب الشعور الوطني المتقد، الذي جعلهم يحملون أرواحهم على كفوفهم، مدافعين عن الوطن والبيت والأرض.
لا يمكن التطرق إلى جميع القصص التي قام بتدوينها ونشرها الكاتب أحمد جربوني في كتابه، والتي تصل إلى 27 قصة سمعها من أشخاص إما عاشوها أو نقلوها من مصدرها الأول، تدور معظمها في منطقة الجليل وخاصة حول أراضي عرابة قرية الكاتب، إلى جانب قرى أخرى.
من قصص الظلم الذي تعرض له أهلنا على يد الأتراك والتي طالما سمعنا عنها قصص الفرارية والسفر برلك حيث يقدم لنا الكاتب إحداها في قصة “فرارية في بلدنا” (ص 27)، فيها يروي لنا ظلم الأتراك من خلال قصة هرب جندي تركي من الجندية ولجوئه إلى قرية عرابة، حيث آوته إحدى العائلات لمدة عامين حتى أصبح فردا منها، لكن يتم القبض عليه واعتقاله وترحيله إلى تركيا وسط صراخه من شدة الضربات التي تعرض لها، وينهي الكاتب قصته بكلمات مؤثرة وخاصة من عمه أبو قاسم “ما في دول في الدنيا أظلم من تركيا”.
ومن قصص التآخي والتعاضد والتلاحم بين أبناء الشعب الواحد استوقفتني قصة ” أهالي البلدين عرابة وبيت جن.. أولاد عم” (ص 31) وفيها يروي قصة قتل شابين من بيت جن لشاب بدوي قرب عرابة، ثم دخلا قرية عرابة وحصلا على حماية زعماء القرية، الذين تمكنوا من عقد هدنة مع أهل القتيل وإعادة الشابين سالمين الى قريتهما. وكذلك قصة “خالد المعجل أمير عشيرة.. وصاحب وصية” (ص 159) التي تعكس وحدة الشعب الفلسطيني الذي تصرف وسلك كشعب واحد وعائلة واحدة، فكان المسلم يدخل في صلح بين مسيحيين أو المسيحي يقدم رأيه في قضايا اسلامية بالعكس دون أي حرج، حيث تدخل خالد المعجل في قضية خلافية بين وجيهين مسيحيين في قرية الرامة (أحدهما كاهن) وتوصل الى فض الخلاف بينهما.
ومن قصص البطولات ما شهدته قرية كفر مندا في التصدي لمخطط ترحيلهم، بحجة إنشاء بحيرة بدل بحيرة الحولة على أراضيهم ضمن مخطط المشروع القطري للمياه. وهناك قصة من عين ماهل “على جبل سيخ” وقصة “نكبة صفورية” عن طمرة وأخرى عن لوبية وطرعان وغيرها الكثير مما يصعب عرضه في هذه العجالة.
وكما أشرت في مطلع المقال فان الناصري أحمد جربوني، الذي عاش عصر عبد الناصر وتأثر بشخصيته المميزة والرائدة، فاستشهد الكاتب بأقواله في أكثر من مكان، وعرّج على ممانعة جهات “إسلامية” في قرية كفرمندا من اطلاق اسم الزعيم جمال عبد الناصر على ميدان في مدخل القرية، الأمر الذي أدى إلى تجميد قرار المجلس المحلي الى يومنا، وهو أمر يدعو للتعجب والدهشة.
ومن شدة محبة الكاتب للزعيم نشر ضمن قصص كتابه قصة زيارته لمصر (مع أنها تعد خارج سياق قصص الكتاب) ليروي لنا عن ذكرياته خلالها ومدى تعلقه ودفاعه عن سيرة الزعيم في قصة “عرابي في مصر العربية” (ص 180) حيث زارت المجموعة التي رافقها الجنوب المصري وخاصة أسوان والسد العالي الذي شيده عبد الناصر رغما عن أنف الاستعمار الأمريكي وبمساعدة من الاتحاد السوفياتي، انتهاء بزيارة ضريح عبد الناصر في القاهرة وهناك استذكر وقفته وما قاله في الزعيم من كلمات وأشعار، جعلت المرافق المصري يتقدم منه ويعانقه ويقول له دامعا ” انك عروبي أصيل وناصري أمين”.
كما أشرت لا يمكن لي في مقالة واحدة أن أفي الكتاب حقه وأقف عند كل قصة وقصة، لكنها دعوة للقراء لأن يقبلوا على قراءة الكتاب وما حواه من قصص، لأن فيها العبر والتي يجدر بنا اليوم الاطلاع عليها في ظل التراجعات والنكسات التي نحياها في بلادنا، علّها تعيد لنا الثقة بأنفسنا وبعض الأمل المفقود.