عصر الغوغاء

زكريا كوردي | أمستردام

ثار الغوغاء يبتغون رييعاً لأوطانهم و يطلبون له الحرية .. احتل الغوغاء الساحات العامة يُسقطون النظام وينتصرون للفوضى .. اقتحم الغوغاء المبنى الحكومي ” الكابيتول .. دمر الغوغاء تماثيل قوس النصر .. قطع الغوغاء رأس تمثال أبو العلاء المعري.. فعل الغوغاء كذا وكذا .. الخ.. أخبار كثيرة تطالعنا عن الغوغاء  وثقاقة الغوغاء وسلوكيات الغوغاء ،،

ترى من هم الغوغاء ؟!

و من هم أولئك العامة ، الدهماء أو السوقة الذين يملأون الورى، ويعومون في زبد أنفسهم ، وتلهيهم ثرثرة الساقية عن هيابة المحيط ..؟

” الغوغاء ” لفظة تعني في معظم قواميس اللغة: الضَّجَّةُ أو الْفَوْضَى التي تصدر عن سَفَلَةِ النَّاسِ ، أو  الهمج  أو الرِّعاع من النَّاس ، الذين  سُمّوا كذلك لكثرة لغطهم وصياحهم”.

لكن – وبحسب فهمي البسيط وتفكري الأبسط فيهم – فإن صفاتهم المميزة، باتت تتلخص عندي في أنهم :

–  أناس ذوي ذوات مهمة وبسيطة ، ونفوس ساذجة، ليست بمنعة بتاتاً عن التشارك كلياً مع الآخرين ،

–  و بأنهم عبارة عن أفهام انفعالية سطحية، ذات حماسة منفلتة ، لا تنقطع عن التأثر  بالآخرين، ولا تتوقف عن الانشغال بالتقليد والمحاكاة لهم.

– أناس تستوطنهم العواطف الجوفاء، و تذهلهم زخرفات القول في اللغة، عن أية تأملات فكرية أو حقائق موضوعية.

–  يجيدون ظروف البكاء والعويل ولا يعرفون الحزن أو التعاطف

– تسكنهم هواجس تفاصيل المبنى، مهما أكلت من عميق الفهم أو باطن المعنى ،

– لهذا  تسلب أفهامهم حماسة الخُطب الرنانة فتبعدهم عن ادراك الحق، وتسرقهم الشعارات الطنانة من معرفة حقائق الواقع .

– هم قوم شديدو الايمان والتعلق بالمطلق، والعقائد الدوغمائية، ذوي تفكير وثوقي صلد ،

اعتنقوا معتقداتهم بالوراثة والتقليد، من خلال نبرات الصوت وحركات الجسد، وأما البراهين العقلية المنطقية فهي تثير نفورهم .

– يضيقون بسلسبيل الحكمة ، و يتميزون -بشكل عام- بأنهم قليلو الاصغاء ،

– تحكمهم خيلاء التصورات وعنجهية المقدرة ، ويعشقون بلاهة الحواف و بريق المظاهر.

-لذا تراهم سريعو التشاطر والتقليد والاندماج فيما بينهم.. أو كما يقال عنهم: إذا اجتَمَعوا غَلَبوا، وإذا تَفَرَّقوا لم يُعرَفوا.

– و الغوغائيون – بعامة – هم تُبّاعٌ للفُرجة وسُلَابٌ للنغمة،  تشدُهم حركة المشهد  وحرارته ، أكثر من  برودة التفكير، أو سكون التأمل بمعاني العبارة و حراك الحدث ..

–  يفهمون ما يريدون أن يفهموا وحسب ، ولا يمتلكون إرادة الفهم النقدي الشاك المستقل .

–  لذلك هم أبعد الناس عن فنون الحوار والتعلم، و لا يجيدون من أركانه سوى سرعة الإجابة والعناد .

–  يكرهون التمحيص و السؤال، وأحكامهم أبعد ما تكون عن المنطق والحكم المنطقي ،

–  أناس لا عبرة بهم ، و جلَّ مقولاتهم المعرفية في الحكم ، تكون مؤطرة فقط في سياق النهاية، اي انهم يقبلون الكل او يرفضون الكل..

لربما بقي من القول أحسنه وهو :

إن كل فرد منا، فيه شيء ما من ضرام الغوغائية ، بمعنى أن وباء الغوغائية  لا تقتصر عدواه – للاسف – على الفرد الجاهل وحسب ، بل قد تتعداه الى الفرد  العالم أيضاً ، ولكن حينئذ تكون فيه الغوغائية  أكثر ضبطا واتزانا. ولكن تبقى – مع ذلك – خطرا داهماً على ينابيع الحقيقة ومرامي انبلاجها .

و لا يخفى على الفهم الحصيف، حقيقة أن كثير من الناس المتعلمين، ممن يُحسبون على اهل العلم والفكر والثقافة ، هم متحضرون ظاهرياً فقط ، بينما في أعماقهم لا يزالون غوغاءا دهماء همج ، وربما أضل سبيلاً

تستوطنهم أحط القيم الغوغائية، المتوارية خلف ربطة عنق فاخرة، أو وثيقة شهادة من الورق المقوى، غافية على حائط سلطة فاسدة، إنها قيم رعناء تمكنت من أنفسهم على توالي الأجيال ، و ليس من السهل أن تزول عنهم دفعة واحدة ، بمجرد تقمصهم الأزياء الحديثة أو تشدقهم ببليغ العبارة أو حتى تسربلهم بأثواب من القداسة  ..

قصارى القول :

كلما ازادد وعي المرء بحدود ذاته، وحصن فهمه بالتفكير الانتقادي والمنطقي التجريبي العلمي المتين ، كلما اتسعت رؤيته للواقع ، وضاقت عنده مساحة اليقين التام والمضل ، في محيطات معارفه الخادعة.

وبالتالي ابتعد – نوعا ما – عن عالم الغوغاء والتدهور العقلي المريع إلى براح غير ذي أمد بعيد ..

و رحم الله رهين المحبسين حين قال

وما العلماءُ والجهّالُ إلاَّ

قريبٌ، حين تنظرُ من قريبِ

للحديث بقية ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى