تهويمات في الساعة الهامدة من الليل من سلة الذاكرة.. للموت وجه آخر
فايز حميدي | شاعر وكاتب فلسطيني مغترب
– لوح بيده مودعا ، لا تنس يا صديقي ، عليك بالمشي فإنه يساعد على النسيان ..علينا رتق جراحنا المنفتحة على الذاكرة ونعيش في حد أدنى من السكينة …
– أبتسم بحزن :
النسيان .كيف للذاكرة ان تنسى …
في ذلك المساء ، خيم على المدينة سكون حذر . الشوارع خالية من المارة ، الساحات مقفرة ، الدكاكين مقفلة ، البيوت مغلقة منكفئة على نفسها …
أضواء الإنفجارات تومض في الأفق الغربي ومضات متتالية ، القصف يشتد نهارا ويخف ليلا …
اتخذ الأب قرارا بالنزول إلى الطابق السفلي من البيت القديم ..
أشعلت الأم شمعة . الضوء الأصفر الشحيح أنار الوجوه المتعبة وجزءا من الأثاث ، أصوات الإنفجارات المتتالية تتعالى …اهتز البيت هزات خفيفة ، وتساقط فتات جص وغبار على الأثاث والأرض …
قتلى وجرحى وصرخات مشلولة الصدى في كل مكان …
حدث نفسه ، آه ما أقساك أيتها الذاكرة …
حتى بسمة الذكريات ما هي إلا نظرة عابرة على جثمان ميت لن يحيى أبدا .
على المرء أن يواجه ذكرياته ، ويكتبها ثم يمزقها كي لا يرى ضعفه أمامه ، وحدها الذكريات تعري أرواحنا الهشة …
كم أتمنى لو أنك ذاكرة معطوبة !!!
لكنها الأيام
مياه كثيرة جرت بالنهر .
الوقت بعد الظهيرة في تلك البلدة الغافية وسط غابات أشجار البتولا، والصنوبر والبيورك إنه الريف الأوروبي في الهواء طراوة ، الشمس حاضرة لكن واهنة ، وجوه السابلة كدآبها دوما حيادية.
حدث نفسه …نعم المشي يساعد على النسيان ..
غادر الشقة سالكا طريق الغابة ، الأشجار تميل إلى الإصفرار ، الأرض ملأى بأوراقها البنية والصفر.
في الحي تسكن أغلبية مهاجرة سوريون وفلسطينيون وصوماليون وايرانيون وأفغان بينما يقيم سكان البلد الأصلي في الحي المقابل.
سار في الشارع الطويل حيث الأبنية الفخمة والفلل على الجانبين.. وجد نفسه أمام مبنى أبيض ضخم يشبه مباني القرن السابع عشر ، بوابته الخشبية العريضة ، وشبابيك نحاسية ، وقبة ذات لون بني فاتح.
إنه متحف المدينة..
في تمام الساعة الرابعة، فتحت البوابة، دخل الجميع منتظما في طابور رتب نفسه غرائزيا.
أقبل رجل تجاوز الخمسين من العمر ، في وجه الأشقر، والعينين الاوروبيتين الزرقاوين، الدقيق الملامح، مرحبا ومبتسما.
لوحات متوسطة الحجم معلقة على جدران المتحف بينما لوحة ضخمة متفردة في موقعها ، تتوسط الحائط لإمرأة عارية تماما ، تجلس على حصان أبيض
تجمع الزوار حول اللوحة المدهشة بجمالها
بدأ مدير المتحف حديثه :
(هذه اللوحة رسمت عام /١٨٥٠م / وهي تحكي قصة إمرأة اسمها/ لوديا بولف/ وهي زوجة الأمير الإيرلندي هانس في العصور الوسطى
هذه السيدة طلبت من زوجها، ان يخفف الضرائب عن الشعب ، وفي كل مرة كان الأمير يرفض طلبها.
وبعد إلحاح منها وافق الأمير على طلبها ، ولكن بشرط تعجيزي ، ليمنع زوجته عن تنفيذ طلبها
كان الشرط :
أن تسير الزوجة عارية تماما في شوارع المدينة ..
كان الأمير مقتنع أنه طلب من زوجته الشيء المستحيل ، ولكنه فوجئ بمستشاره يقول له ، ان زوجته تسير في شوارع المدينة عارية تماما على ظهر حصان أبيض …وأن الشوارع كانت خالية تماما ، والسبب ان الناس حين علموا بالموضوع ، وبتفاني السيدة في خدمة شعب الولاية ، قرروا إلتزام المنازل ، وإغلاق الشبابيك والستائر ، حفاظا على شرف السيدة التي ضحت من أجلهم ..) .
كانت قصة اللوحة مذهلة
كنت حزينا حتى الموت ..والذاكرة تقارن بين ما تشاهده هنا ، وما عايشته من واقع هناك في تلك البلاد البعيدة عن العين ، والقريبة من القلب ، لا بل هي القلب ذاته …
كانت تلك البلاد تحاصرني ، مجروحا في كرامتي والبرد ينخر عظامي .
وضعت يدي في جيوب سترتي، وغادرت المتحف مارا بالشارع الرئيسي.
مشيت منخفض الرأس، يتملكني شعور الخزي في القلب، والطعنة في الوجدان، في وطن يشبه الضباب والأدخنة الداكنة.
في بلاد شوهت ذاكرة الأشياء ، واختفت كل الأشياء الحميمة ، واحترقت بيد الاستبداد والتخلف والتعصب والحقد ….
بلاد لبست قشرة الحضارة ، وأما الروح فكانت جاهلية …
يا لهذا الزمن ما أشد قسوته ، إنه زمن العار …
في ذلك المساء الإسكندنافي البارد كان في ذاكرتي جملة واحدة :
إذا الشعب استفاق سيغرق العالم بنوره …