حمحمة الخيول.. قصة قصيرة
د. أحمد حسين عثمان | باحث وقاص مصري
لم تكن هذه المرة هي الأولى التي يدرب فيها خيلا ، لكنها كانت المرة الأولى التي يقع في حالة صراع نفسي ، على الرغم أنه روض أحصنة كثيرة ، فلم يفكر- مجرد تفكير- لو للحظة أن يمتلك جوادا ما ، كانت هذه الفرس غريبة في مشيتها ، منطوية في كلماتها ، تراها ظاهرة وسط الجياد كشعاع يتسرب من خلف ظلام دامس .. تجذب النظر إليها جبرا دون أن تكون لك إرادة ، حين أتي بها صاحبها له ليروضها شعر الفارس المدرب بنوع من الاغتراب بينهما ، شعر بأن كل ما يجمعه بها ذلك اللجام ، نعم اللجام فقط ، أما قلبها وعقلها ، فكان في شرود عنه .
أوصاه بها ، واتفق أن يأتي بها إليه كل أحد وأربعاء ، تمضي الأيام .. تتولد في داخله عناصر تتلاقى مع عناصرها ، عناصر تحدث كيمياء معقدة بينهما ، كلما حاول فض هذه العناصر ازداد تعقيدها،، تتجاذبه ثورات أحيانا تبدو مريرة ولحظات تفقد حفاظها حتي لتكاد تبين ، تفضحه العيون ، فتكتم أنفاسها الأهداب ، حاول أكثر من مرة أن يعتذر عن ترويضها ، لكن صاحبها صمم على استكمال مهمته ، ازداد الأمر سوءا حين بدأ يشعر أن خواطرها تتحرك إليه ، تبدو متجهمة حين تكون في مربط سيدها ، وتعلوها فرحة حين تأتي لساحته ، سأله ذات مرة ::
– هذه الفرس متغيرة في أحوالها هذه الأيام ، لا أدري ما بها ؟
– نظر إليه مرتبكا بعدما ابتلع ريقه .. الخيول تحب الانطلاق ، معظم الخيول التي مرت على نظري كانت هكذا ، وكنوع من العلاج .. أكمل كلامه :
– الفارس الذي لا يتمكن من أن يقنع خيله بجدارته من الأفضل أن يبيعها؛ حتى لا تكون سببا في خسارته … الإهمال يولد القهر ، والقهر مدعاة للهروب ولو بالخيال ، أخبرني جدي قديما :بأن الأرض حين تفقد الماء تتشقق طالبة أي شيء …
يأتي الليل ، يتكأ على سريره ، يشعر أنه ريتكب جريمة نكراء ، كيف يصل به عقله أن يفكر هكذا ؟ !!. كيف يندفع نحو خيل ليس له؟ !!!، ربي أخرجني من محنتي .. (غصب عني يارب والله ) ، تغيب عيناه في النوم بعدما عزم على قطع هذه الأواصل وإذابة هذه العناصر ،. ومع أن الوعي عنده رفض أن يجعله حبيس هذه القيود ، فاللاشعور عنده لم يلق الصورة والفكرة من خزينته ، فنقله إلى عالم آخر ، يرى نفسه على شاطيء العريش ، برماله الصفراء ، وقت الشفق الأحمر، وقد امتطى الفرس ، وانطلاقا في فراغ الكون يسدانه بطبول الحوافر ، ونغمات الصهيل ؛حتى غاصت أقدامهما في البحر ، فتطاير شعرها المعقود على عينه، مع قطرات الماء التي تتناثر من وطئها للماء فتحجب عنه الرؤية ، فلا يرى في الكون إلا سرجها ، ولا يسمع في أذنيه إلا صهيلها .
يستيقظ على طرقات سيدها ،طرقات مدوية ، وكأنها تخبره أنه لا يصح له حتى أن يفعل هذا في عالم الأحلام ، يقوم يضع يده على وجه : ( استغر الله العظيم يارب ) ، يفتح باب الاصطبل ينظر إلى سيدها بنظرات متقطعه .. يحاول من خلالها أن يعتذر أو يبرر، في حين كانت تنظر إليه هي بنظرات ممتدة ، يتخلص من الموقف باستدارة هروب داخل الاصطبل، ينصرف السيد ،و يبدأ التدريب اليومي معها .
كان يرى رسائل وكلمات وعلامات استفهام على جبهتها ، كلما حاولت أن تبوح .. اختلق أمرا ما ليتحاشى الإجابة، حين وضع لها مكعبات السكر في فمها تجاوزتها لتصل إلى كفه ، سحب يده كالبرق الخاطف ، اقتربت خطوتين،. تراجع هو خطوات شاخصا البصر مرتجف القلب، علم ساعتها أنها أزاحت جميع مياه بحرها نحو شطآنه ، وأن سؤال سيدها السابق له كان سببه أنه يبحث عن قطرة عندها فلا يجد إلا قاعا أجدب صلدا ليس فيه معنى الحياة.
هي معه عظم ولحم ، وفي ساحة التدريب قلب وعقل .
يتسآل وجلا :- ياترى هل شك في أمر ما ؟؟ ، أنا لم أرتكب شيئا، إنني أجاهد نفسي ليلا ونهارا لأزيل حمحمة صوتها من أذني ،. لكن ما ذنبه هو؟ .. لما أكون مصدر قلق له؟ أو أهدم عشا تعب هو في بناه؟ ، هو الفارس الأصيل وإن كان لا يمتلك روحها ، وأنا الفارس الباطل وإن كنت أعني لديها الوجود والحياة،والباطل مهما امتلك من المبررات لا يقوى على استبدال الواقع الشرعي ، تقترب أكثر منه حتى يلتصق ظهره بالحائط ،
– تغرق عيون الرفض في عيون الرجاء .
– تبرق في عينيها دمعة توسل .
– يعبس في وجهها . معلنا شدة الرفض .
– تتولى أهداب العين عن لسانه الجواب ، : (( كونك لا تشعرين معه بعنفوان التجربة، ليس مبررا لأن تفكي لجامه من فمك ، أنتِ ملكه وإن كانت خلايا عواطفك تنمو بعيدا عن خلاياه ، وأنا لست أفضل حالا منكِ .. إنني في كل ساعة أحاول أن أخمد نارا تتأجج في صدري ، لكني أفضل أن تصهرني بلهيبها أفضل من أن أتجرع ماء الحياة من كأس غيري ))..
– تتمدد أذنيها كخيل عربي في بداية المضمار ، تقف على ساقيها الخلفيتين ، تجدف بقدميها الأماميتين في الهواء ،. تحمحم بصوت عالٍ معلنة رفضها لموقفه ،
– يسمع في صهيلها شعر سعاد الصبّاح حين تقول :
(( لا تعاندني فأغدو حمحما ،،، يهدم الكون عليكَ وعليا ,,, لا أبالي إن تحطمت معي ودفنا قصة الحب سويا ،،، فحنانيك وحاذر غضبتي إن في قلبي جوادا عربيا )).
حتى هذه الأشعار لم تشفع لها ، فقد ظل متمسكل بنُبل الفارس وقد استل من كنانته سهما أصاب قبله المتوقد في مقتل،،فدفن نجما ذهبيا لاح له في الأفق الحالِك سرابا، ورب قتل كان بداية الحياة ، ورب حياة كانت بداية للموت .
اليوم آخر يوم في الترويض ، تراه بمثابة آخر يوم في حياتها، تسير مع سيدها برقبة منكسرة تكاد تلتصق بالأرض ، كلما سارت خطوات نظرة إلى الخلف كثيرا ، لم يكن يعرف هل نظراتها إليه كانت نظرة وداع ؟، أو نظرة عتاب؟ ، أو نظرة رجاء ؟ هو لم يستطع أن يعرف ، كل ما يعلمه أنه استراح حين لم ينظر إليها على أنها شيء مملوك له .
حزينه ولكنها رائعه ❤️??
شكرا