قراءة في ديوان هارون هاشم رشيد طيور الجنة

فراس حج محمد – فلسطين

جولة في رحاب الشهداء

هارون هاشم رشيد: شاعر فلسطيني. ولد في عام 1927، عمل في التعليم فترة، وعمل كذلك مديرا لإذاعة صوت العرب في قطاع غزة، خرج من غزة بعد عام 1967، وعمل ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة. غنت المطربة اللبنانية فيروز أغنية من أشعاره بعنوان “سنرجع يوما إلى حينا”.

فراس حج محمدأعترف في بداية هذه الجولة أنني قد تعرفت إلى الشاعر هارون هاشم رشيد متأخرا، إذ لم ينل هذا الشاعر حظاً للتعريف به في الأوساط الأكاديمية في فلسطين، تتناسب وإبداعاته والمؤلفات العديدة التي أنتجها شعرا ونثرا ودراسات، وظللت أذكر منه اسمه يظهر حشوا بين جملة أسماء، هي الأخرى لم يسطع نورها، وقد كان جل الاهتمام منصبا على ثلة من الشعراء والأدباء، لم يتجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة، وغدونا نعرفهم، وتصادفنا عنهم دراسات ومقالات ومقولات متعددة، في المجلات والصحف والفضائيات حتى ظننا أن لا غيرهم في الساحة، فنشأت، كما الكثيرين غيري، أجهل هارون هاشم رشيد وأخاه عليّاً والشاعر توفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا شاعرا، ويوسف أبو لوز، و… والقائمة تطول، وهنا أسجل مأخذا على تلك الدوائر الأكاديمية، التي أطفأت الأنوار من حول هؤلاء الكبار فعلا، شعرا وشعورا ومواقف إنسانية.

أبدأ في هذه الجولة الوقوف عند الشاعر هارون هاشم رشيد، لنتجول سويا في أفياء ديوانه “طيور الجنة”، ذلك الديوان الصادر في طبعته الأولى عن دار الشروق في القاهرة عام 1998، ويقع الديوان في (160) صفحة من الحجم المتوسط، ويتكون من (31) قصيدة شعرية.

هارون هاشم رشيديخصص الشاعر قصائد هذا الديوان للاحتفاء بشهداء الأمة في فلسطين والوطن العربي، حسبما بين الشاعر نفسه من العنوان الفرعي للديوان “قصائد للشهداء”، ويبين الشاعر في مستهل الديوان مناسبة إصداره بقوله: “هذا العام 1998 يكون قد مر على نكبة فلسطين نصف قرن من الزمان، وكثيرة هي قصائد الشهداء التي كتبتها عبر هذه السنوات، عمن عرفت، وعمن لا أعرف، من بينهم اخترت رموزا عنهم، ومنهم، منارات للأجيال القادمة تجد فيها القدوة وتتعلم منها المثل وتحقق ما لم نستطع أن نحقق، وتكون هذه القصائد الباقة التي أضعها على قبور هؤلاء” [1].

لقد وضح الهدف، وبانت الغاية إذن أيها القارئ العزيز، فستجد ولا بد أسماء شهداء كثيرين ضحوا بحياتهم من أجل أهداف عليا وسامية، ستجد قادة كانوا كبارا في أحزابهم وتنظيماتهم، وكانوا عظماء في نظر الناس، كيف لا وهم القادة، وهم من بعدُ وقود الشهادة ومشاعل التحرير، وستجد إلى جانب هؤلاء جانبا من معاناة أسرة الشهيد، أمه أو زوجته أو ابنته، وستجد كذلك مقاطع مؤلمة من فظائع الاحتلال انتقاما من الشهيد، وكأنه ليس كافيا أن يرحل الشهيد بعيدا طيرا مغردا في سماء المطلق، بل لا بد من أن يذوق ذووه المرارة مضاعفة بالتضييق والاعتقال وهدم البيوت.

وقفة مع العنوان

يحيل عنوان الديوان إلى ظلال دينية شفيفة غير مباشرة، تمتلئ بالشاعرية والأثيرية، ويعتمد التركيب الإضافي الذي يتشكل منه العنوان على المجاز، ناقلا كلمتيه -وقد أضحتا مدلولا واحدا- إلى فضاء معنوي يعبق بالفخر والاعتزاز وطيب المصير، فهؤلاء الشهداء غدوا طيورا تتحرك في مكان، وليس أي مكان، إنه الجنة، موظفا الشاعر في هذا العنوان الحديث النبوي الشريف “أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل”[2].

ويؤسس الشاعر بذلك من لحظة العنوان إلى بعد رؤيوي مهم يحكم قصائد الديوان، فالقصائد ليست قصائد رثاء وتوجع، بل هي قصائد احتفال وتحدٍ واحتفاء وعهد وميثاق لمواصلة الدرب لأنه درب يحقق العزة والنصر والتحرير والخلاص، وهو عنوان دافع وحاثّ ليس للقراءة وحدها، بل لاتخاذ قرار في الشهادة والاستشهاد. وفي إعادة نشر هذه القصائد في عمل خاص، يحمل بعدا آخر في التمجيد وتحقيق الهدف، كما أبان الشاعر نفسه عن هذه الغاية في تصديره المثبت هنا في صدر هذه الإطلالة.

القصائد والتأريخ للأحداث

أشرت فيما سلف أن هذا الديوان مخصص للشهداء الذين قدموا أرواحهم في سبيل ما آمنوا به من قضايا وآراء، وأن الشاعر قد أعاد نشر هذه القصائد، وقد مر على النكبة خمسون عاما، وخلال هذه الخمسين عاما من القهر والاحتلال لوقوع فلسطين كلها تحت السيطرة الاستعمارية الصهيونية، قُدمت قرابين كثيرة وقوافل حافلة من الشرايين النازفة بسر التوحد مع هذه الأرض الطاهرة طهارة ذلك الدم، ولذلك فالشاعر يؤرخ لتلك العمليات البطولية التي نفذها المناضلون والمجاهدون بغض النظر عن الأيدولوجيا والفكر، ولكنهم كلهم مشتركون في السبيل والطريقة، فمنهم الإسلامي، ومنهم اليساري والشيوعي، ومنهم العلماني، ومنهم من هو مؤطر في التنظيمات، ومنهم من هو خالٍ من أي انتماء إلا الانتماء لفلسطين المقدسة.

وتتابع القصائد، وهي مرتبة تاريخيا في الغالب حسب تاريخ ارتقاء الشهيد طيرا في جنته الموعودة، بدءا من عام 1955، حيث استشهد الصاغ محمود أحمد صادق قائد حامية غزة، وانتهاء بعام 1996، حيث استشهد يحيى عياش، وقد بلغ عدد الشهداء الذين تحدث عنهم (18) شهيدا فلسطينيا، غير الشهداء الذين قضوا في مجازر وحشية كصبرا وشاتيلا، أو شهداء قلعة شقيف، وغيرها، وغير هؤلاء الشهداء من أبناء فلسطين، يخصص الشاعر قصيدة للحديث عن بلقيس زوجة الشاعر السوري نزار قباني التي قضت نحبها في تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981، ولم ينس الشاعر أن يرثي بعض شهداء لبنان، فخصص للشهيد هادي حسن نصر الله قصيدة، هذا الشهيد الذي قضى نحبه على أيدي العصابات الصهيونية بتاريخ: 3/9/1997.

كما توقف الشاعر عند “البيت الشهيد”، و”الشهيد المجهول”، وألمح الشاعر في بعض قصائده إلى المدن التي تعرضت للإرهاب الصهيوني المنظم، كما يتضح من قصيدة “جرحان”، التي يتحدث فيها عن قانا ومجزرتها، والخليل ومجزرتها، ولكن هذه القصائد لم ترق إلى مستوى رثاء المدن، كما عهدناه عند الشعراء قديما أو حديثا.

ويبين هارون هاشم رشيد موقفه من مقاومة الاحتلال مدافعا عن منطقه ضد الدعاية الإمبريالية والصهيونية التي تصف الفدائيين بأنهم إرهابيون، فيرفض هذه التسمية، مبينا من هو الإرهابي الحقيقي، وذلك في قصيدة بعنوان “فدائيون لا إرهابيون”، وأخيرا واتساقا مع الموضوع يبين الشاعر في قصيدة بعنوان “هذا سلامهم” موقفه من السلام، وعمليته الميتة، وكأنه يؤكد وقوفه مع المقاومة المسلحة، رافضا ذلك الدرب الذي لم يرجع حقا، ولم يحفظ كرامة، مبينا عدم رغبة الإسرائيليين حقيقة بالسلام، ملخصا ذلك في قوله:[3]

وتظل لاءات العدو ثوابت

في كل مجتمع تثور وتُنْشَدُ

لاءاته لا تنتهي وغروره

يمضي إلى أقصى مداه ويبعدُ

ملامح من لغة الشاعر:

سبق وأن ألمحتُ فيما مضى من سطور أن الشاعر لا يريد أن يندب حظه، أو أن يستكين ويخنع ويذل، بل على العكس تماما، فليس المجاهد والمناضل هو من يستكين ويخضع، ويعرف الشاعر تماما أن هذا الدرب درب مليء بالضحايا والأشلاء، ولن يتألق ويتضح إلا بالدم جاريا في كل ناحية وفجّ، ولذلك فإنه لم يرث الشهداء ذلك الرثاء المتحسر الحزين، بل مجد الشهداء وأعلى من شأنهم، فاتسمت لغته بالقوة والعنف والتحدي، وأكد أهمية مواصلة الدرب للثأر لذلك الدم، وتحقيق الحلم بالتحرير والعيش الكريم، فمنذ البيت الأول من القصيدة يظل الشاعر نافثا حممه غير مهادن، ويطلب من ذوي الضحايا أن لا يبين في عيونهم دمع الحسرة والأسى، فنراه يخاطب أم الشهيد:[4]

أنا لا أريدك تذكرين فتاك بالدمع السخينِ

بالحزن بالأنات، بالأشجان بالصوت الحزينِ

بتلهف القلب الطعين وبالتوجع والأنينِ

إني أريدك تذكرين فتاك بالثأر الدفينِ

بالوثبة الكبرى غدا في موكب النصر المبينِ

ويختار الشاعر في أغلب القصائد مفردات قوية ومشبوبة اللهيب، مجسدا ما يعتمل في ذاته من حب للثورة والثائرين، فنراه يخاطب الشهيد مصطفى حافظ قائد الفدائيين في قطاع غزة قائلا:[5]

جئت أرثيك وشعبي كله

ههنا محتشد في مأتمِ

عارم الأحقاد مشبوب اللظى

لم يحد عن ثأره لم ينمِ

كل عين جمرة لاهبة

كل قلب فورة من حممِ

وتمضى جل قصائد الشاعر على هذه الشاكلة وهذا النفس القوي، مؤكدا روح المقاومة في نهايات قصائده، حيث كانت تميل أغلب تلك النهايات إلى الأمل والتفاؤل وتحقيق المراد، فمثلا ينهي الشاعر قصيدة “رسالة الشهيد” التي ألقاها في مهرجان الشعر التاسع في بغداد عام 1966، بقوله:[6]

أنا ثائر والريح تحبس في يدي

لأعيدها نارا على أعدائي

أنا لا تسموني فقد خطت يدي

بدمي على أرض الفداء “فدائي”

وقد اتسمت قصائد الشاعر في المجمل بالخطابية والمباشرة، وقلّت فيها الصور المدهشة والغريبة، وكانت كلها تنضح من التراث الشعري العربي، وظلت صورها من المعروف والقريب إلى الذهنية العربية والمتلقي البسيط، وفي ظني أن ذلك مناسب وموضوع هذه القصائد، كونها تنتسب إلى ما عرف بشعر المناسبات، وقيلت في فترة ساد فيها هذا النوع من الشعر المرتبط بقضايا التحرير والمقاومة حيت مطلب التجويد والتعمية والمواربة يفقد الشاعر جماهيريته وإحساسه مع الآخرين، وكذلك تبتعد الجماهير عنه وعن نصوصه.

وقد تنبه بعض الدارسين إلى هذا الملمح في اللغة الشعرية في الشعر الفلسطيني المقاوم، فقد أفرد محمد عبد عبد الله عطوات عنوانا خاصا للحديث عن واقعية اللغة في هذا الشعر، وذلك في كتابه الموسوم بـ “الاتجاهات الوطنية في الشعر الفلسطيني المعاصر من 1918-1998″، ويرى المؤلف أن الأحداث التي عاشها الشعب الفلسطيني، دفعت الشعراء إلى أن يصوروا “أحداث المأساة التي حلت بوطنهم وبقومهم وبأمتهم، كما صوروا كل آثارها”[7]، كما يعدد المؤلف مجموعة من الشعراء الذين بدت الواقعية واضحة في شهرهم، ومنهم بطبيعة الحال شاعرنا هارون هاشم رشيد.

ويلمح في لغة الشاعر تأثره بالشعراء الآخرين، خصوصا الشعراء الذين مروا بتجربة شبيهة بتجربة الشاعر في المقاومة والتحريض على الثورة، ففي قصيدة بعنوان “جرحان” يتناص الشاعر مع بيت أبي القاسم الشابي المشهور:[8]

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

وذلك في قوله في نهاية القصيدة:[9]

وتقول قولتها،

ترددها، ومن جيل لجيل،

ما أي شيء إن أراد الشعب

يوما مستحيل.

نزار قبانيويستعير الشاعر في قصيدة “يا شاعري لا تقبل العزاء”، بعضا من لغة نزار قباني عندما رثى زوجته بلقيس، ويخاطب الشاعر هاشم رشيد نزارا ويعزيه بمقتل زوجته، وتحس وأنت تقرأ القصيدة حضور روح نزار في لغته وغضبه على العرب الذين لم يحرروا فلسطين، وأتقنوا لعبة القتل والاغتيالات ليس إلا، يقول نزار قباني:[10]

لو أنهم حملوا إلينا

من فلسطين الحزينة

نجمة أو

برتقالة

لو أنهم حملوا إلينا

من شواطئ غزة

حجرا صغيرا أو

محارة

لو أنهم من ربع قرن حرروا

زيتونة

أو أرجعوا ليمونة

ومحوا عن التاريخ عاره

لشكرت من قتلوك يا بلقيس

ويعزيه الشاعر هارون هاشم رشيد مستحضرا تلك الروح الصاخب والثائر، متفقا مع الشاعر في رؤاه التي قدمها، فهم غير صادقين ودجالين ونصابين، فما هو التاريخ الناصع لهؤلاء الأعراب سوى اغتيالات سياسية تدمر العباد وترجع البلاد القهقرى. يقول هارون هاشم رشيد:[11]

لو صدقوا،

لمنعوا المصيبة التي حلت

وقاوموا الخراب

لو صدقوا

ما حملت جرائد الصباح

والمساء كل يوم صرخة المصاب

لو صدقوا

ما ظلت الردة شرعةً

يحرسها الجنود والحراب

لو صدقوا

ما سجلوها ضد مجهول

وأغلقوا الكتاب

لكنهم يا شاعري

جميعهم

يقتسمون الإثم والأسلابْ

ويحاول هارون هاشم رشيد الإجابة عن تساؤلات نزار في قصيدته، ويكمل عنه تلك المشاهد المروعة، ليوضح بصريح العبارة أسباب تأخير بلقيس الشهيدة عن بيتها وأبنائها، فإذا كانت الأخبار غامضة في نص نزار، فإنها واضحة في قصيدة الشاعر رشيد:[12]

بلقيس

لن تعود هذا اليوم يا نزار

لن تحمل البسمة

للصغار

وهي التي ما عودتك الانتظار

حبيبة الأطفال والأشعار

تأخرت

لأن طائر الوفاء

اغتيل في هذا الصباح

اغتاله الأشرارٍ

ولا تبتعد قصيدة هارون هاشم رشيد في مجملها عن قصيدة بلقيس كثيرا، فما هي إلا الصدى لذلك الوجع الإنساني الذي تغلغل في أعصاب الشاعر نزار قباني حزنا على أميرته وحبيبته بلقيس، وظلت هذه القصيدة تنضح من لغة نزار وقلقه وحنقه في لغة محتدمة وفياضة بالحزن الكاوي وبالغ الحنين والتحسر والألم.

وفي قصيدة “هذا سلامهم” يستعير الشاعر هارون هاشم رشيد قولة الملك والشاعر الأسير المعتمد بن عباد “قالوا: الخضوع سياسة”، حيث قالها في قصيدة، وهو مسجون في سجن أغمات في المغرب، وقد طُلب منه أن يهادن ويحني رأسه لعواصف الدهر، فيأبى:[13]

قالوا الخُضوعُ سياسَةٌ = = فليبدُ مِنك لَهُم خُضوعُ

وَأَلَذُّ مِن طَعم الخُضو = =عِ عَلى فَمي السَمُّ النَقيعُ

ويتخذ الشاعر هارون هاشم رشيد الموقف ذاته رافضا الخضوع والذل، ومصرا على مواصلة الانتفاضة المجيدة، ومقاومة لاءات المحتلين بالثبات والإصرار على المطالب المشروعة لأهل فلسطين، يقول الشاعر:[14]

قالوا الخُضوعُ سياسَةٌ وتنصلوا

من كل ما قضت العدالة، جُردوا

قالوا: الخضوع، وفوجئوا بأحبة

ثاروا على محتلهم وتمردوا.

وعلى الرغم من أن الشاعر يتكئ على النص الديني في الحديث الشريف في العنوان والرؤيا وخلود الشهداء، إلا أن ظلال اللغة الدينية ظلت خافتة، ولم يظهر لها ملامح واضحة، فقد غلب على اللغة الشعرية ثوريتها المحايدة التي لم تتصل باللغة الدينية اتصالا مباشرا عدا لمسات طفيفة لم تشكل ملمحا بارزا في نصوص تلك القصائد.

ولم يظهر أثر كبير للتاريخ الإسلامي الحافل بالبطولة في قصائد هذا الديوان، ولم يستحضر الشاعر أيا من تلك الشخصيات العظيمة، وكأن الشاعر لم يرد أن يتكئ على التاريخ أو أن يرتكز على نزعة ماضوية، قد تفهم التصاقا بماض مجيد لن يعود له قوام في الحياة المعاصرة، أو أنه أراد أن يلتزم الحيادية الفكرية فلا يريد لقصائده أن تصطبغ بغير الصبغة الواقعية، والتي أشرنا إلى وجودها عند الشاعر.

ومع كل هذا، ورد ذكر لشخصيتين تاريخيتين نسائيتين في قصيدة “من قلبي” التي يرثي فيها الشاعرُ الشهيد هادي، نجل الزعيم اللبناني الإسلامي حسن نصر الله، وهاتان الشخصيتان هما أسماء والخنساء، وذلك بقوله:[15]

زين الشباب، فمن ترى لوداعه

يوم الفدا .. “أسماءُ” و”الخنساءُ”

وقد مثلت هاتان المرأتان في التاريخ الإسلامي استثناء معينا في لحظات حالكة من الضعف الإنساني؛ فأسماء هي بنت أبي بكر رضي الله عنهما، تلك المرأة التي شجعت ابنها عبد الله بن الزبير على الثبات يوم الفداء المرتقب، ولحظة الموت الحاسمة والمفزعة، عندما واجه مصيره على أيدي الحجاج وقواته، فقد دخل على أمه مستشيرا “فقال: يا أماه ما ترين؟ قد خذلني الناس وخذلني أهل بيتي! فقالت: لا يلعبن بك صبيان بني أمية، عش كريما أو مت كريما” [16]. إنه موقف بطولي يذكر بكل معاني الشرف والعزة والرجولة، تلك المعاني التي يجسدها الشهداء في كل أمة وفي كل وقت.

أما الخنساء، فقصتها أشهر وأعرف في التاريخ الإسلامي، ومواقفها في الجاهلية والإسلام معروفة، فبكاءة الجاهلية، والتي ذرفت دموعها الحرى على أخيها صخر، تدفع بأبنائها الأربع في الإسلام لنيل الشهادة، حتى شكلت فعلا استثناء يكاد لا يصدق في موقف درامي أسطوري، جعلها تقول عندما بلغها خبر مقتل أبنائها “الحمد لله الذي شرفني بقتلهم”[17]، وهنا يعيد هارون هاشم رشيد التذكير بهذا الموقف تعزية وتقوية لأهل الشهيد، وإصرارا على تقديم المزيد، فأمهات الشهداء كلهن الخنساء، وكلهن يقفن مواقف مشابهة، وتاريخ النضال في فلسطين حافل بالكثيرات قديما وحديثا.

مواقف إنسانية

لم تمنع الروح الثورية المتحدية في تلك القصائد الشاعر من الحديث عن بعض المواقف الإنسانية التي تنز بالحزن الطافح والوجع الممضّ، وأكثر ما برزت تلك المواقف عند حديث الشاعر عن أسر الشهداء، ففي قصيدة “الأم الخالدة” يتحدث الشاعر عن تنكر الأهل والأحباب والأصحاب لها بعد استشهاد زوجها، فالكل يتركها وحيدة تجابه الحياة مصرة على أن تربي أبناءها وتعليمهم كجزء من الواجب العظيم تجاههم وتجاه أبيهم، وإيمانا منها أن العلم هو باب من أبواب المقاومة والصمود، ويسرد الشاعر قصة هذه الأم بسلاسة مصورا كيف أتته وعرفته قصتها والأحداث التي جرت معها، تاركا لها حرية الحديث، فقد جاءت القصيدة محكية على لسانها لتقول:[18]

حتى إذا نال الشهادة مؤمن

ومضى إلى رحماته يستشهدُ

قلب المجنّ رفاقُه وصحابه

والأهل أعطوا ظهرهم وتمردوا

ووجدت نفسي والصغار لوحدن

في التيه في الصحراء نحن الشرد

فنهضت من فوق الجراح عـفـية

كالسيف يشرع لامعا ويجردُ

وحلفت بالشهم الأبي وذكره

إني به وباسمه أتخلدُ

فأكون خالدة بحق عندم

يعلو صغاري بالعلوم وأصمدُ

لأخلد البطل الذي فارقته

بصغاره وبه أعز وأخلدُ

وشبيه بهذا الموقف موقف ابنة الشهيد الذي فارقها أبوها ملبيا نداء الأرض، ليتركها أبوها حائرة نهبا للصغار والتافهين، الذي سادوا في غفلة من الزمان، وكادوا بل نسوا دماء الشهداء، ولم يعودوا يحفظون كرامة من تركوهم وراءهم، فلنقرأ ماذا كتب الشاعر عن هذا الموقف الحزين فعلا:[19]

لماذا؟ فيم أنكرها زمانٌ

رديء ظالم وجفا أباه

أدار بظهره لأعز بنت

وأشرف نبتة حقدا قلاه

يسود التافهون به ويعلو

صغار اتخموا مالا وجاه

فما بذلوا ولو نذرا يسير

لأمتهم ولا صانوا حماه

ويصور الشاعر في قصيدة “الجثمان الحائر” موقفا إنسانيا وسياسيا في آن واحد، مبينا كيف تتصرف بعض الأنظمة العربية وتمنع جثامين الشهداء من الوصول إلى تلك الأوطان التي أصبح المرء يشك بعروبتها بسبب أمثال هؤلاء الحكام، فكيف لحاكم أن يمنع جثةً من أن تدفن في أرض عربية للتخلص على الأقل من بلاد غربتها، فتحظى، ولو وهي هامدة، بفرصة البقاء على بقعة عربية، هذا ما حدث مع جثمان الشهيد عبد المحسن، يقول الشاعر:[20]

يا عبد المحسن

جثمانك

في أبواب الدول العربية

يستأذن

أن يلقى شبرا يثوي فيه

وأن يدفن.

كلمة في الشكل الفني:

لقد انحاز الشاعر فنيا إلى القصيدة ذات الشطرين، فقد بلغ عدد القصائد التي جاءت على هذا النمط عشرين قصيدة، التزم فيها الشاعر قافية واحدة مع التزامه التصريع في البيت الأول في بعض تلك القصائد، وجاءت ثلاث قصائد نوع الشاعر في قوافيها، بحيث جعل لكل مقطع في تلك القصائد قافية خاصة، وأما شعر التفعيلة، فلم تتجاوز عدد قصائده سوى ثماني قصائد مقتربا بعضها من بعض سمات شعر الشطرين، وخاصة في التزام القافية.

أما البحور الشعرية التي ركب أمواجها الشاعر، فقد تنوعت تنوعا لافتا للنظر على أن الكامل له النصيب الأكبر في الموسيقى الشعرية، فقد انتظم في تفاعيل هذا البحر (13) قصيدة، موظفا إمكانيات هذا البحر الإيقاعية، فاستخدمه تاما ومجزوءا، وركبه في الإبحار على متن بعض قصائد الشعر الحر كذلك، ومستفيدا من التنوع الإيقاعي والصور التي تأتي عليها تفعيلته الأصلية (مُتَفاعلن).

أما بقية القصائد والبالغ عددها (18) فقد توزعتها البحور الآتية: الرمل ومجزوؤه (4) قصائد، والوافر ومجزوؤه كذلك (4) قصائد، وبلغت قصائد بحر الخفيف (3) قصائد، وحظي المتقارب والرجز بقصيدتين لكل منهما، وأما الطويل والبسيط والمحدث فقد انفرد كل واحد من هذه البحور بقصيدة واحدة، وقد لوحظ أن هناك خللا موسيقيا في بعض القصائد وخاصة في سطرها الأول أو بيتها الأول، من ذلك ما حدث في قصيدة “عودة الشاطر حسن”، والقصيدة على تفعيلة الرجز إلا أن فيها خللا بدا في سطرها الأول:[21]

قالوا: يجيئنا/ذات صباحٍ/فارس الآمالِ/منقذ الوطنْ

– – ب-/ب-/- ب ب – /- – ب -/ – – ب – /ب – ب –

مستفعلن /زيادة/ متْفعلن / مستفعلن / مستفعلن / متفعلن

فكما هو واضح في التقطيع العروضي أن (ب -) زائدة موسيقية أحدثت خللا في السطر الشعري.

وتضطر الشاعرَ أحيانا بعض الأعلام لإحداث هذا الخلل العروضي، فقد بدأ الشاعر قصيدة “الجدار الحزين” بقوله:[22]

وقفت “بخانْ يونس”/ هذي المدينة ذات الرنين

ب – ب/ب – ه ب /ب – -/ ب – ب/ب – – /ب – ه

فعولُ / زيادة حرف/ فعولنْ/ فعولُ / فعولنْ / فعولْ

ولا يستقيم الوزن إلا بحذف النون الساكنة من كلمة خانْ يونس

وأما قصيدة “البيت الشهيد”، فقد خلط الشاعر بين تفعيلتي الهزج والوافر، فهناك تفاعيل لن تكون في الوافر مع أنها تأتي في الهزج، فأباح الشاعر لنفسه هذا الخلط، وذلك في البيت الأول:[23]

كما أنت / كذا بيتُ/ كَ يا عيا/ ش قد نسف

ب – – ب/ ب – – ب/ ب – – -/ ب – ب ب –

تطاير مث/ لما أنت/ تناثر ضا/ ئعا نتف

ب – ب ب – /ب – – ب/ ب – ب ب -/ ب – ب ب –

فالتفعيلة الواردة في البيت الأول والثاني (ب – – ب) مفاعيلُ لا تكون في الوافر، مع أنها تأتي وبتناسق تام في بحر الهزج، وقد حدث مثل هذا الخلط أيضا في قصيدة بعنوان “جرحان”، إذ تتخلل بداية القصيدة بعض تفاعيل الرجز التي لا تكون في الكامل قديما، وقد يكون للتشابه الإيقاعي بين هذين البحرين، مسوغ لتحل تفاعيلهما، بعضها محل بعض، فقد ورد في بداية القصيدة قول الشاعر:[24]

جرحان: جر/ حٌ في الخليلْ/ وآخرٌ / لحبيبتي،/ “قانا” الجليلْ

– – ب- / – – ب – ه/ ب- ب – / ب ب – ب – /- – ب – ه

فالتفعيلة الثالثة (ب- ب -) مُتَفْعلن لا تكون في الكامل مع ورودها عادية جدا في الرجز، صاحب التفاعيل الفرعية المتعددة، التي تقربه أحيانا من النثر، بسبب كثرة ما يصيب تفاعيله من أعراض وعلل وزحافات، ولا يكون هذا مع الكامل، ذلك البحر الفياض في موسيقاه والمنساب في إيقاعه.

ولكن لماذا يقع هذا الخلط أو هذا التشويه في بداية القصائد؟ سؤال جدير بأن يطرح وأن يجاب عليه بتجرد بغض النظر عن فحولة الشاعر وأثره ومدى إتقانه لصنعته.

لعل ذلك يشير من طرف خفي إلى التعثر في بداية النظم والولادة المتعسرة لبعض القصائد، وقد أشار بعضهم إلى أن القصيدة لا يمكن أن تفجرها كلمة أو بيت أو حتى عبارة، “ما لم تكن تلك الكلمة أو ذاك البيت أو حتى تلك العبارة على اتصال عميق مع سورة في النفس تخرجها عن هدوئها إلى حالة من القلق الصادق، غير المفتعل” [25]، وهذا ما قد يفسر مثل هذه الظاهرة عند بعض الشعراء، ومن بينهم بطبيعة الحال الشاعر هارون هاشم رشيد، عدا أن المناسبة تفرض ثقلها على الشاعر فيتعجل نظم القصيدة، معتمدا على الصنعة دون شرارة البدء الحقيقية فتولد المطالع مشوهة وسقيمة، وقد يكون لحشو الأعلام في القصيدة دور في التخلع الموسيقي فيها، فكل تلك أسباب قد تدفع الموسيقى الشعرية إلى الترنح، فيختل الميزان، وتذهب ببعض الرونق والجمال.

وأخيرا

تفيأنا ظلالك يا شاعر الشهداء والدم المقدس، فعذرا إن لم يقدرك الآخرون حق قدرك، ومعذرة منك إن لم نفهمك حق الفهم، ولكنك تبقى الشاعر الذي سطر المأساة بوجع الروح وأمل الغد المفعم برياح الثورة والنصر، ولن نجد خاتمة لهذه الدراسة خيرا من قولك في بعض قصائدك:[26]

صباح الخير

يا أحبابنا الأحرار

يا أمل الملايينِ

ويا لمع السنا والضوءِ

في ليل التشارينِ

على ميعادنا نبقى

على العهد الفلسطيني

وسلاما أيها الشاعر الذي نحب.

= = =

الهوامش

[1] الديوان، ص 8.

[2] أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، تحقيق: عبد الأمير مهنا، منشورات الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط1، 1992، الجزء الرابع، ص 116.

[3] الديوان، ص 147.

[4] الديوان، ص 9

[5] الديوان، ص 13.

[6] الديوان، ص 22.

[7] محمد عبد عبد الله عطوات، الاتجاهات الوطنية في الشعر الفلسطيني المعاصر، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1998، ص 183.

[8] أبو القاسم الشابي، ديوان أبي القاسم الشابي، قدم له وشرحه أ. أحمد حسن سبح، بيروت، لبنان، ط1، 1995، ص 70.

[9] الديوان، ص 114.

[10] نزار قباني، قصيدة بلقيس، منشورات نزار قباني، بيروت، لبنان، ط4، 1990، ص 68-70.

[11] الديوان، ص 125-126.

[12] الديوان، ص 130.

[13] المعتمد بن عباد، ديوان المعتمد بن عباد (ملك إشبيلية)، تحقيق: أحمد أحمد بدوي، وحامد عبد المجيد، أشرف عليه راجعه: طه حسين، المطبعة الأميرية، القاهرة، ط1، 1951، ص 88.

[14] الديوان، ص 145

[15] الديوان، ص 153.

[16] أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، تحقيق: عبد المجيد الترحيني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1983، ج5، ص 163.

[17] عبد القادر بن عمر البغدادي، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1997، الجزء الأول، ص 438.

[18] الديوان، ص 116.

[19] الديوان، ص 120.

[20] الديوان، ص 23.

[21] الديوان، ص 31.

[22] الديوان، ص 105.

[23] الديوان، ص 121.

[24] الديوان، ص 111.

[25] محمد حلمي الريشة، وآمال رضوان، الإشراقة المجنحة (لحظة البيت الأول من القصيدة)، تقديم شربل داغر، بيت الشعر الفلسطيني، رام الله، فلسطين، ط1، 2007، (شهادة أحمد بنميمون)، ص 37.

[26] هارون هاشم رشيد، ديوان وردة على جبين القدس، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1998، ص 9.

= = =

المصادر والمراجع

  1. 1. البغدادي، عبد القادر بن عمر، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1997.
  2. 2. الجيوسي، سلمى الخضراء، موسوعة الأدب الفلسطيني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1997.
  3. 3. رشيد، هارون هاشم، طيور الجنة (ديوان شعر)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998.

وردة على جبين القدس (ديوان شعر)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998

  1. 4. الريشة، محمد حلمي، بالاشتراك، الإشراقة المجنحة (لحظة البيت الأول من القصيدة)، تقديم: شربل داغر، بيت الشعر الفلسطيني، رام الله، فلسطين، ط1، 2007.
  2. 5. الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، تحقيق: عبد الأمير مهنا، منشورات الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط1، 1992.
  3. 6. الشابي، أبو القاسم، ديوان أبي القاسم الشابي، قدم له وشرحه أ. أحمد حسن سبح، بيروت، لبنان، ط1، 1995.
  4. 7. ابن عباد، المعتمد، ديوان المعتمد بن عباد (ملك إشبيلية)، تحقيق: أحمد أحمد بدوي، وحامد عبد المجيد، أشرف عليه راجعه: طه حسين، المطبعة الأميرية، القاهرة، ط1، 1951.
  5. 8. ابن عبد ربه الأندلسي، أحمد بن محمد، العقد الفريد، تحقيق: عبد المجيد الترحيني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1983.
  6. 9. عطوات، محمد عبد عبد الله، الاتجاهات الوطنية في الشعر الفلسطيني المعاصر (من 1918-1998)، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1998.
  7. قباني، نزار، قصيدة بلقيس، منشورات نزار قباني، بيروت، لبنان، ط4، 1990.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى