الأمن: مقاربة للعموم
خالد كاظم أبو دوح| أستاذ علم الاجتماع المساعد – جامعة سوهاج
عندما يتحدث بعض الناس عن المشكلات الأمنية، فإنهم يفعلون ذلك بعبارات مختلفة نوعًا ما، عن أي نوع آخر من المشكلات، فالأمن يعتبر أمرًا حيويًا وحتميًا، وليس خيارًا، ولا يهتم الناس بحساب تكاليف الأمن وعوائده، هم في كل الأحوال يواصلون حياتهم، لأنهم يؤمنون ويثقون تمامًا بأن أمنهم في صميم العقد الاجتماعي بينهم وبين الدولة، فهم تنازلوا طواعية عن جزء من حرياتهم لصالح الدولة وسلطتها، مقابل أن توفر لهم الدولة الأمن والأمان والحماية.
ويعتبر الأمن حاجة مهمة لأي إنسان، ويعتقد الناس أنه ذو أهمية قصوى، وقيمة كبرى، وقد لا يستقيم الاجتماع بغيابه، وبدونه قد لا نتمكن من متابعة حياتنا اليومية، وأهدافنا الثانوية في حياة جيدة ولائقة إنسانيًا. وبغياب الأمن قد يزداد قلقنا الوجودي؛ وبذلك يعد الأمن أولوية سياسية وحياتية كبرى، واستدعاء الأمن وحضوره، هو رفع شبح الخوف من الكارثة أو الخطر، والتذرع بالأمن هو محو لمخاوفنا، وهو لغة للتعبئة، فالأمن ينجز الأمور؛ لهذا فإن لغة الأمن جذابة أيضًا، ويمكن أن تعمل كبطاقة خطابية رابحة للحكومات، فمثلًا عرض قضايا عادية واعتيادية على أنها قضايا تتعلق بالأمن القومي، يمكن أن يمنح الحكومة أو الدولة الحق في التصرف على نحو طارئ، ومن خلال إجراءات استثنائية، ويمكن كبح الحريات المدنية من خلال ذلك، أو إبقاء المناقشات والمعلومات والاستخبارات خارج المجال العام، كما يمكن تبرير استخدام القوة العسكرية.
وبالرغم من الاتفاق على أهمية الأمن ومحوريته في تأسيس الاجتماع البشري، إلا أنه مفهوم بعيد المنال، ومتنازع عليه، ومن الشائع أن هناك اختلاف وخلافات واسعة حول طبيعة الأمن ومعناه.
وتتمثل إحدى طرق تفكيك الطبيعة المراوغة لمفهوم الأمن في طرح بعض الأسئلة حولها، السؤال الأول مؤداه: ما الأمن؟ وتختلف الإجابات على هذا السؤال، على سبيل المثال: هل يرتبط الأمن ببساطة بالبقاء الجسدي (البقاء على قيد الحياة، أو الحفاظ على الأرواح) أم يجب أن يمتد الأمر إلى ظروف الوجود وسماته؛ مثل مستوى معين من الرفاهية، والحفاظ على الحقوق الأساسية للإنسان، وفي هذا السياق، تميز الأمم المتحدة بين مستويين للأمن: ما يسمونه «التحرر من الخوف»، ويعنى التأكيد على التهديدات الجسدية والقمع، وفي الجانب الثاني «التحرر من الفقر والفاقة والحرمان» ويعنى توفير الاحتياجات الأساسية للإنسان. وفي كل جانب يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: أين يمكن أن نرسم الخط الفاصل بين موقف الأمن وانعدام الأمن؟ وبمعنى آخر ما هو مقدار الخوف المقبول؟ ومقدار ما يجب أن نملكه من سلع وأغذية واحتياجات مادية (التعليم، المسكن، العمل، الصحة)؟ ما هو مطلوب فعلًا لتلبية احتياجاتنا الأساسية كبشر آمنين؟ علاوة على ذلك، هل من الأفضل الإجابة على هذه الأسئلة بشكل مطلق أم نسبي؟
أما السؤال الثاني فمؤداه: الأمن لمن؟
لقد أكدت المناقشات التقليدية حول الأمن القومي، على أن الأمن هو «أمن الدولة»، باعتبار أن الدولة هي الجهة الفاعلة والأساسية في النظام الدولي، والمنوط بها حماية أمن مواطنيها ودعمه، لكن من الناحية العملية، غالبا ما كانت الدولة مصدرًا لانعدام الأمن بشكل كبير لمواطنيها، كما أن الأمن القومي في بعض الأحيان كان مرادفًا للحفاظ على أمن النظام الحاكم، وعلى هذا الأساس يزعم البعض أن أمن الموضوعات الأخرى يجب أن يحظى بالأولوية بدلًا من ذلك. قد نؤكد على سبيل المثال: على الأمن الإنساني، أو أمن الفرد، أو الأمن البيئي، أو حتى على أمن القيم والحريات الأساسية. إن الاختيارات التي يتم الاستقرار عليها هنا أمر مهم، لأن إعطاء الأولوية لأمن موضوع ما، قد يكون ضارًا بأمن الموضوعات الأخرى، كما هو الحال عند الحفاظ على أمن الدولة، فقد يتطلب ذلك إرسال جنود للحرب والموت، أو عند الحفاظ على أمن الحاكم ونظام حكمه، قد يتم إهدار أمن المواطن المعارض لنظام الحكم.
ويتعلق السؤال الثالث – المهم – بما يمكن اعتباره مشكلة أو معضلة أمنية، ويرتبط هذا السؤال بشكل مختلف بكيفية تحديد التهديدات والمشكلات وترتيب الأولويات الأمنية، ومن المغري هنا الاعتقاد بأن التهديدات بديهية ومعروفة بشكل موضوعي، وفي الواقع ليس هذا هو الحال، فتحديد التهديدات وترتيب الأولويات الأمنية، من حيث الأهمية والضرورة هو مسألة خلافية، فغالبا هناك تباعد بين المخاوف الأمنية للأقوياء والضعفاء، كما أن مخاوف الأقوياء من المعتاد أن تكون هي المسيطرة على الأجندة الأمنية، فمثلًا التهديدات الأمنية للإرهاب يتم إعطاؤها أولوية مطلقة، مقارنة بالتهديدات الأمنية المرتبطة بالفقر والتفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع، حتى على مستوى النظام الدولي، فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تم إعطاء أولوية للتهديدات الأمنية على حساب مشاكل التنمية والفقر في العالم.
وأخيرًا، فإن تحديد طبيعة الأمن، وموضوعه الذي سيتم تحديد أولوياته، وطبيعة التهديد، لا يزال يترك السؤال مفتوحًا حول كيفية تحقيق الأمن؟ ويصل ذلك إلى قلب مخاوف السياسة والنقاشات حول الأمن. على سبيل المثال: من الناحية التاريخية – وخاصة عندما يكون الأمن القومي معادلًا لأمن الدولة – غالبا ما ينظر إلى الأمن بعبارات تنافسية، ويعتمد على مؤشرات الموارد الاقتصادية والعسكرية وتسليح الجيوش، هنا يتم خلط مخزون الأمان بسهولة مع مستويات القوة المادية والعسكرية، ومع ذلك في قلب التركيز على الموارد المادية والأسلحة في معركة من أجل البقاء، يمكن أن يعزز بسهولة عقلية تنافسية محصلتها «صفر» فيما يتعلق بالأمن. ومن منظور بديل، يمكن النظر إلى الأمن على أنه فعل مشترك أو «مصلحة مشتركة» يمكن تعزيزه من خلال تطوير علاقات إيجابية وتعاونية بين الأفراد والجماعات والدول، وتكون شبكات العلاقات والتفاعلات منسجمة، ومثل هذه الرؤية، تؤكد على تعزيز العدالة وحقوق الإنسان في بناء الأمن، وعلى هذا الأساس يمكن التعامل مع الأمن من الناحية التنافسية والتعاونية.