بدخول الأسير ماهر يونس العام الاعتقالي التاسع والثلاثين: لماذا لا يتذمّر؟

أمير مخّول | حيفا  – فلسطين

 

صدر بحقه قرار بالإعدام وألبسوه الزيّ الأحمر، ثم جرى تخفيف الحكم بحق ماهر وكريم والمرحوم سامي يونس، ليستبدل بالسجن المؤبد مدى الحياة. وقبل بضع سنوات وضمن المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية والحديث عن الإفراج عن قدامى الأسرى، تم تخفيض حكمه إلى خمسة وأربعين عاماً. وفي ربيع سنة 2014 كان من المفترض الإفراج عنه هو وزملائه قدامي أسرى الداخل، أو في مفردات الحركة الأسيرة “أسرى ما قبل أوسلو”، في الصفقة التي امتدت أشهراً طويلة والتزمت إسرائيل فيها بإطلاق سراح قدامي الأسرى على أربع دفعات، ودفعوا بأسماء الأسرى من فلسطينيي 48 إلى الدفعة الرابعة والأخيرة بموازاة تقدم المفاوضات برعاية أميركية..

في التأجيل اختبأت النيات، فقبل إنجاز الفرج المأمول كانت مفاجأة دولة الاحتلال عندما تذرعت بأن صفقة الأسرى الفلسطينيين لا تشمل “مواطني إسرائيل”. وفي لحظة حوّلوا ماهر من فدائي فلسطيني أرادوا إعدامه قبل أربعة عقود بتهمة قتل جندي، إلى “مواطن”. المواطنة في بلادنا مكلفة، حاولوا التخلص في سنوات الخمسين من حَمَلتها فأخفقوا، وباتت حجتهم الدائمة للانتقام من مواطنتنا. وبات القضاء الإسرائيلي ينسب إلى أسرى الداخل حين يمثلون أمامه، مركّب الخيانة، خيانة الدولة، أو ممكن تفسيرها بخيانة المواطنة التي يمنّون فيها على الداخل الفلسطيني بعد أن سلبوا منا وطننا ومنحونا مواطنتهم غير المكتملة والتي لا يمكن أن تكتمل. لم تخرج الدفعة الرابعة المأمولة إلى حيز التنفيذ. فالمواطنة والهوية هما دَين على الفلسطيني أن يسدده كل يوم بالعقاب والانتقام ولا ينتهي بل يتجدد.

هكذا بات أسرى الداخل القدامى هم من الأقدم في سجون الاحتلال، وقد تجاوزتهم كل الصفقات، مع بعض الظلم من ذوي القربى. لكن القِدم ليس مسابقة في مسافات الأعمار، ولا صفة يريدها أحد، بل كلما زاد القِدم في الأسر فهذا دليل على العجز، ومؤشر على بؤس الحال الفلسطيني، وعلى النقيض من ذلك فهو يشير إلى قوة صبر الفلسطينيين والفلسطينيات وصمودهم. في الأساطير هناك تركيز على البعد فوق الإنساني، وهناك تضخيم للمعاناة وللبطولات، ولو سئل أي من قدامى الأسرى الذين يمضون في السجون عقوداً طويلة، عن حلمه فلن يجيب بغير الحرية والفرج والبيت والأهل والأرض. ولن يقبل بأسطورة البطولات بديلاً من الفرج، ولا الاستعاضة بكبير الكلام عن عجز الحال. فقانون الثورات يقول إنه كلما تراجع وهجها زاد منسوب الكلام.

لكن الخيبات كانت من نصيب ماهر طوال طريقه؛ ففي سنة 1985 في صفقة التبادل التي يطلق عليها صفقة جبريل (نسبة إلى إبرامها مع الجبهة الشعبية القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل)، بلّغت مصلحة السجون الأسير ماهر عشية الصفقة أن اسمه وارد ضمن المحررين. فرح الأسرى به وفرح هو بلقاء الأحبة والنور، ودّع زملاءه بالبسمة الحزينة التي تاهت طريقها ما بين الفرح والحزن، صعد إلى حافلة المحررين، وكان يحلق في سماوات الوجدان، وإذ بالسجانين يقتربون منه ليبلغوه أنه في الحافلة عن طريق الخطأ، واقتادوه من تحليقه في سماوات الوجدان إلى زنزانتهم التي لم يخرج منها حتى يومنا هذا ولا تزال بانتظاره سنوات في الزنزانة التي لا توفر الحالة الفلسطينية مفاتيح لها.

كما في سابقاتها، كذا في صفقة وفاء الأحرار (شاليط)، فإن الحظ الفلسطيني لم يحالف ماهر الفلسطيني!! فالحظ الفلسطيني لا يعمل إذا ما اعتُمد وحيداً. فالحظ يحتاج إلى القوة – قوة الشعب، وإلى الأخلاقيات الكفاحية، وكلاهما مستبعد حالياً.

حين اعتُقلت سنة 2010 ونقلوني من زنازين الشاباك إلى سجن جلبوع، مكثت الأسابيع الأولى في “غرفة ماهر”، أي الزنزانة التي تتسع لثمانية أسرى ويشرف عليها ماهر. ومنه تعلمت دروس الأسر الأولى والتي راكمتها الحياة الاعتقالية. وقد لفت نظري أنني لم أسمع ماهر يوماً يتذمر في السجن، وتساءلت لماذا لا يتذمر ولماذا لا يلعن الحال التي غابت عنها الثورة؟ لكنني لم ألحّ عليه في ذلك لأن كل أسير في بحر ارتطام الصدمات يبتكر توازناته التي لا يستكين لها إلاّ هو، وليس من حق أحد أن ينظر إليه بمرآته أو أن يعكّر صفو صبره. لقد أوجد عالمه، وبالأحرى بنى مانعة صواعق وصدمات، ثم شيد عالمه من حولها ليحتمي هناك. وبالنسبة إليه لا معنى لتكرار التذمر إذا لم يكن من السجن بدّ. ولا توجد قيمة للتذمر في واقع لا يثور. ليبنِ قدامى الأسرى وتيرة خاصة للتحرك في توازنات ما بين الوقت واللامكان، كي تنساب على وقعها الأيام وتمضي دونما أعباء، فهم يجدون لأنفسهم عالماً من الهدوء الداخلي وأقصى درجات التصالح مع الذات، كي يتجاوزوا مضيَّ السنين، حتى السجان بات لا يجد في جعبته ما يزيد في قهرهم فكل وسائله باتت عديمة الفاعلية تجاه أناس أمضوا من السنين في السجن أكثر من كامل سنين عمره.

في الثامن عشر من كانون الثاني/يناير من هذا العام دخل ماهر عامه التاسع والثلاثين في الاعتقال. أفكّر فيه وبكريم الذي سبقه باثني عشر يوماً، وبالمرحوم سامي يونس الذي أفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار حين كان في الثانية والثمانين من عمره. أفكر في والدة الأسير ماهر التي تنتظر ابنها وهي صابرة على الصبر الطويل وعلى أمل الفرج القريب. أتحدث إليها اليوم فأكسب منها شحنة إنسانية عظيمة من المعنويات والأمل. إنها حالة الأسير ماهر، إنها حالة قدامى الأسرى جميعهم، إنها من قصة الشعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى