الرمز الديني في شعر جميل حيدر.. الإمام الحسين (ع) أنموذجا

أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

 وتضطلع الشخصيات الدينية بدورٍ هامٍ في تشكيل بنية النَّص الشِّعري الحديث؛ وذلك لارتباطها بأحداثٍ معينة تُثرِي مضمونَ النَّص, وتفسح المجالَ لكشف اللثام عن معانٍ كثيرةٍ يصعب البوح بها والتعبير عنها بطريقةٍ مباشرةٍ وتوظيف تلك الرموز بأبعاد إيحائيةٍ تُعبِّر بدورِها عن الرؤية الشعرية المعاصرة, وتجسيد ذلك من خلال إسقاط معاناة الشاعر الخاصة على معطيات التراث لتصبح معطيات شعرية معاصرة([1])، ومن صور استحضارِهِ الرموز الدِّينية قوله في قصيدته ” المجد الذبيح “

هلَّلتُ للمجدِ الذبيحِ كأنَّنِي منهُ بعيدِ

وكأنَّ يومي من رؤاهُ يطلُّ محمرَّ الخدودِ

أرتاعُ حينَ تشدُّني نجواهُ للأُفقِ البعيدِ([2])

     إذ اِستهلَّ الشَّاعرُ قصيدتَهُ في ذكرى الإمام الحسين (ع) بالتهليل, والفخر, والغِبطة بالضدّ ممَّا تُوحي إليه فاجعة كربلاء الأليمة , وهذا بالتأكيد ليس من باب المفارقة, فالحزن الذي صاحَبَ مأساةَ كربلاء يتجرَّع ألمَهُ الشاعرُ , وجعله يحسُّ بحرارة الفاقدين متى ماطرقَ ذكر الإمام الحسين(ع) مسامعه, فهو يغبط النموذج الذي استحضرهُ بأنِ اجتباه الله بالتضحية والفداء, فقد لمحَ فيه الشاعرُ عزيمةً على محاربة رموز الفسق والفساد وانتصاراً لمبادئ الخير والصلاح التي انعدمت بتأثيرٍ من السُّلطة الحاكمة آنذاك, مع الحاجة إلى مثل هذا النموذج العظيم في الوقت الحاضر وهو ما يُدركُهُ الشاعر, ويُفضِي به إلى أن يضعَهُ ضمن حدود العدميَّة؛ لأنَّ ذلك من اختصاص الله سبحانه وتعالى, فضلاً عن ذلك أنَّ ثمَّةَ أموراً قُدِّرت لهذه الشخصيَّة الفذَّة، منها أنَّها تسير إلى المنيَّة بوازعٍ ديني وغيبي وفق تقدير إلهي , ونجاحها بإتمام رسالتِها الموسومة التي اقتصتَّها نهضتها الإصلاحية. ويقول الشاعر في مقطعٍ آخر :

ولجأتُ أستجدي المناحةَ لانتماءٍ في وجودي

شأن الذين تسربلوا لعلاك حالكة البرودِ([3])

  هنا يُوغِل الشاعر في الماضي ليستشرفَ الحاضر, فيغدو البكاء خيرَ مَن يُواسي الشاعر, ويُخفِّف من وطأة المصيبة , ولذلك فإنَّ الشَّاعر جميل حيدر كغيرِهِ من الشعراء يجِدُ متنفَّسهُ في مصيبة الحسين بن علي خاصة, وآل البيت عامة, فإذا بدواوين الشعراء عامرة بهذا الأدب الحزين المليء بالآلام والأحزان والدموع ([4]), فذاتُ الشاعر تتصاغر أمام عَظَمة شخصيَّة الإمام الحسين (ع) لتحرِّك فيه الدافعَ المعنوي الذي لا يتحقَّق بالمناحة والبكاء بل باستلهام العِبَر والمضي قُدماً إلى بلوغ الأهداف المنشودة، ولذلك يسرد لنا الشَّاعر حواريتَهُ في المقطع اللاحق بشكل يجعل القارئَ يعيش جوَّ القصيدة فيقول:

فرفضتني رفضَ المعفَّر بالضراعةِ والسُّجودِ

وأثرتني صوبَ المسارِ يُدقُّ أعناقَ الخلودِ([5])

   إذ نستدل من خلال هذه الحوارية القائمة بين ذات المتكلِّم والآخَر الرمز، أنَّ صوت الإمام الحسين (ع) يتداخل مع صوت الشاعر وفق دينامية تصدُر من أعماق وجدان الشاعر، وتحثُّه على عدم الاستكانة ومحاباة أهل الباطل, هذا طبعاً إنْ أرادَ الإنسان الخلاص من وطأة الظلم وقمع السلطة.

  ولذلك فهو يسعى من خلال هذه الحوارية إلى أن ينتقل من القيمة الماديَّة المحسوسة إلى القيمة المعنويَّة التي تتمثَّل بالخلود والإباء ومن ثَمَّ الولوج إلى القيمة العليا المُكمِّلة للإباء المعنوي وهي التضحية, فالإمام الحسين (ع) المثل الفذّ لصاحب القضية النبيلة, الذي يعرف سلفاً أنَّ معركته مع قوى الباطل خاسرة ولكنَّ ذلك لا يمنعه من أن يبذل دمَهُ الطهور في سبيلها, مُوقِناً أنَّ هذا الدم سيحقَّق لقضيتِهِ الانتصارَ والخلودَ, وأنَّ في استشهادهِ انتصاراً له ولقضيَّته ([6]).ويعود مرة أخرى ليُحاكي الماضي بصداه الدِّيني فيقول في مقطع آخر :

ماذا وهل غيرَ الشعاعِ زكى بأسلوبٍ جديدِ

ودمُ النبوةِ هل سوى مجرى الرسالةِ في الحفيدِ([7])

   وهنا يتضح إيغال الأمة في الغَيِّ والفساد والتنكُّر لقيم السَّماء , لتقعَ على الشاعر مَهمَّة استنهاض الضمائر التي أماتَها الحقد والضغينة, متناسيةً بذلك أنَّ الإمام الحسين (ع) هو حفيد رسول الله (ص) وهو امتداد للسلالة النبوية الطَّاهرة, فضلاً عن ذلك فإنَّ ثورة الإمام الحسين (ع) قد مثَّلت تراجيديا البطولة في سعيها إلى إحداث التغيير المطلوب، وقُوبلت بالرفض والتنكيل مع وضوح أهدافها ونُبلها ممثِّلةً بشخصيَّة قائدها الإمام الحسين (ع) إلَّا أنَّها أوسعَ من أن تتلاءم مع واقعٍ مزيَّفٍ نجدُهُ ممثّلاً بالمقطع الآتي:

فلأيِّ حدٍّ يستكينُ وقد طغى عَبثُ الوجودِ

حاولتُ لكن العروبةَ مهرةُ الشَّمَمِ العنيدِ

ولكي تقيم على الظَّلام محجة النور السديدِ

فأبيتَ تستهدي الحياةَ بغير منبعها الرشيدِ([8])

  إنَّ شخصيَّة الإمام الحسين (ع) تحتلُّ مكانةً كبيرةً في قلوب المسلمين من مختلف, ولهذا فهو يُشكِّل تجسيداً شعرياً للثورة والتضحية بكل عناصرها السامية, كما أنَّ إثارة النَّص الشِّعري لهذه المشكلات من التراث, يُعَدُّ محاولةً لإعادة إنتاجٍ جديدٍ لعلاقة الذات بالآخر السلطوي في بُعدِها التراثي, وإعادة صياغتها في الوقت الراهن؛ للتعبير عن أزمة العلاقة بين الذات والسلطة, الذات الشاعرة التي تتطلع إلى الحرية عبر رؤيتها الخاصة للواقع والمحيط, ومواجهة أدوات القمع السُّلطوية وكبت توجهُّها, وتحويل بوحِها إلى مسكوتٍ عنه([9]).

  وفي نصِّهِ “الحسين” يُوجِّه عتابَهُ إلى نفسِه وإلى الآخرين؛ لأنَّهم جانبوا الصواب , ورأوا في ثورة الإمام الحسين (ع) رمزاً للبكاء وليس منهجاً يرسم لهم رؤى الإصلاح ويبتعث لهم الماضي؛ ليستعينوا به على تجاوز خيبات الحاضر وتقلُّباته , فنراه يقول :

حملنا الجرمَ مأدبةً وثكلا

ولم نحملهُ مأذنةً ونصلا

يعاكسنا الصَّدى فيه وندري

بأنَّ هديرهُ ما كان إلَّا

    رحيلاً يستحثُّ بنا السرايا

لتورقَ صحةً وتشفَّ ميلا([10])

     إذ يستبطُنُ عتاباً ضمنياً إلى نفسه والآخرين؛ لعدم امتثالهم للصوت الهادر الذي كان سبباً في تأنيب ضمائرهم, فقد اختصَّ هو ومن يصدر خطابَهُ إليهم بأنَّهم لم يستوعبوا النهضةَ الحسينيَّةَ مضموناً وليس شكلاً, وذلك يتضح من ورود التَّضاد بين لفظي “ثكلا” و”نصلا” فدلالة اللفظ الأول إسقاط صورة المتباكين على مصرع الإمام الحسين “ع”, في حين حَمَلَ اللفظُ الثاني دلالةَ الثورة على الظلم التي تسقط على حاملِها دلالةَ المستميت في سبيل إحقاق الحق والدفاع عنه.

وأحياناً يكون التركيز على الإلمام بجوانب شخصيَّة معينة, تعني أنَّهُ وجَدَ روحَه الخاصة فيه([11]), إذ يقول:

حَشَدنا حولَهُ هولَ المآسي

ولم نبرحْ نزيدُ الحَشد هولا

فليتَ مضاربَ الأحزانِ كانت

تُكرِّمُ حبَّها البدويَّ صَقلا

  لتبصرَ وجههُ النبوي أُفقا

وتحضنَ جرحَهُ العربيَّ حقلا([12])

    وهنا نلحظ اِستهجان الذات حال الواقع المرير, إلَّا أنَّها ومن خلال إرتدادها إلى الماضي فإنَّها تعيد بناءَهُ وفق رؤيا إنسانية معاصرة تكشف عن هموم الإنسان ومعاناته, وهذا يعني أنَّ الماضي يرتبط مع الحاضر بعلاقة جدلية تعتمد على التأثير والتأثُّر, وتجعل النَّص الشعريَّ ذا قيمة توثيقية, يكتسب بحضورِها دليلاً محكَماً وبرهاناً مفحِماً على كبرياء الأمة وحاضرها, أو حالات انكسارها الحضاري ومدى انعكاسِهِ على الواقع المعاصر، بمعنى آخر إنَّ ذات الشاعر تستلهم أوجه التشابه بين أحداث الماضي ووقائع العصر وظروفه سلباً أو إيجاباً, وهو في ذلك يكشف عن صدى صوت الجماعة وصدى ذاتِهِ في إطار الحقيقة التاريخية العامة التي يبحث عنها([13]), وهذا يعني أنَّ الذات لا تنأى بنفسها عن واقعها المُثقَل بالجراح,ولا تملك بيدها صورة الحل الناجع فيقول :

سماحاً يا سليلَ النورِ إنَّا

نعاني عقدةَ التَّبصيرِ حلَّا

فإنَّا رغمَ هذا النورِ يسعى

لكلِّ الناسِ لا نرضاهُ كُلَا

نغازلُ خَلفهُ ليلاً ونرجو

بأن يرتدَّ زهو الخصبِ محَلا([14])

  تسردُ الَّذات جزءاً من واقعٍ اِعتدنا عليه, وخبرنا دقائقَهُ وتفاصيلَهُ, فمعطياتُ الواقع المزيَّف ورضوخُ العربي للحاكم الظالم, كان من نتائجهِ التفكُّك والاضطراب الذي أصيبت به الأمة وعدم التبصُّر بحقيقة الأمور, ومجاملة أيِّ أحدٍ صالح أو طالح ممَّن يتقلَّدون المناصب إلى أن يُستبان على حقيقتِهِ, كل هذا قد استشعرته الذات, ليكوِّنَ الدور الذي تلعبهُ أمام معطيات التراث المعاصر[15].

 إذن ثَمَّةَ أبعاد إنسانية جمَّة تدفع بالذات إلى أن تتعامل مع الدلالات والرموز الدِّينية, منها رغبتها في تعظيم الآخَر الديني والتَّواصُل معَهُ, بما يُحقِّق للنص الشعري عنصري الدَّيمومة والثَّبات من خلال ارتباطهِ بالآخَر الديني, وفي الوقت نفسه فإنَّ هذا الخزين الثقافي يُوثِّق صلةَ الذات بمذهبِها وعقيدتِها, ويُجلي رغبتَها في تمثُّل إيحاءاته, من خلال التوظيف الدقيق له والمحافظة على جوهرِهِ الديني, وعدم التجاوز عليه.

المراجع:

([1]) ينظر : استدعاء شخصيّة الحسين بن علي (عليه السلام) في الشعر العربي الحديث : د. تيسير محمد أحمد الزيات نجم: 1.

([2]) المَجموعة الكاملة، نبعٌ وظل: 26 .

([3]) المَجموعة الكاملة، نبعٌ وظل: 26 .

([4]) تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 34 .

([5]) المَجموعة الكاملة، نبعٌ وظل: 26 .

([6]) استدعاء الشخصيات التراثية: 121 – 122 .

([7]) المَجموعة الكاملة، نبعٌ وظل: 27 .

([8]) المَجموعة الكاملة، نبعٌ وظل: 27 .

([9]) ينظر : التجليات الفنية لعلاقة الأنا بالآخر في الشعر العربي المعاصر: د. أحمد ياسين السليماني : 363.

([10]) المَجموعة الكاملة، أرقُ المسرى: 418 .

([11]) ينظر: شاعرية أحلام اليقظة علم شاعرية التأملات الشاردة: غاستون بلاشار, تر :جورج سعد: 70 .

([12]) المَجموعة الكاملة ، أرقُ المسرى: 419 .

([13]) توظيف الشخصيات التاريخية في الشعر الفلسطيني المعاصر: إبراهيم نمر موسى, بحث منشور على شبكة الانترنت, samaa . stormpages . com  ⁄ aq3 . htm .

([14]) المَجموعة الكاملة ، أرقُ المسرى: 420 .                  

[15] الذات والآخر في شعر جميل حيدر: علي حسن عبيد: 43 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى