بين الكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة (٥) الكلمة المكتوبة ٢-٢

رضا راشد علي | باحث في علوم البلاغة بالأزهر الشريف

رأينا في المقالة السابقة ما كان للكلمة المكتوبة من فضائل، وما اكتسبته من محامد، وكنت أظنني- وبعض الظن إثم- أنني بذلك وفيت لها بعض حقها، ، ناسيا أو متناسيا أن الكلمة المكتوبة من ذوات الهمم العالية، وأن همتها لن تقف بها عند حد معين في الفضيلة، بل ترنو دوما نحو المعالي: كلما حازت فضيلة استحثت خطاها صعودا نحو فضيلة أعلى ..وهكذا .

  ولهذا ما كدت ألقي القلم من يدي إيذانا بانتهائي من المقالة السالفة حتى انثالت علي الكلمة المكتوبة بما لم أذكر من فضائلها، فلم أجد بدا من فسخ ما كنت عزمت عليه مجبرا على العودة إليها من جديد  مواصلا الحديث عنها.

وكان مما انثال علي من فضائل المكتوبة أن أداتها القلم، وللقلم في الإسلام مكانة كبرى، ذلك أنه مما اختص بأن الله خلقه بيده كما جاء في قول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما :”خلق الله أربعة  أشياء بيده: العرش،  والقلم، وآدم، وجنة عدن ..”، وأنه -أي القلم – أول ما خلق الله عز وجل كما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: “أول  ما خلق الله القلم، فقال: له اكتب، فقال: رب، وماذا أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة”، فكان القلم أول ما خلق الله تنويها بشأن الكلمة المكتوبة،  وأعظمها شأنا مقادير الخلائق  عامة ثم مقادير كل شخص خاصة،  كما جاء في  حديث ابن مسعود رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيَنفُخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد…الحديث” .

    فمما سبق يتبين مدى الاحتفاء السماوي بالكلمة المكتوبة وأداتها: “القلم” الذي خلقه ربنا أول  ما خلق من الأشياء ليكتب به مقادير الخلائق عامة والبشر خاصة.. وما كان ربك نسيا، بل هو سبحانه الذي أحاط كل شيء علما وأحصى كل شيء عددا، فليس ربنا سبحانه بالمحتاج إلى القلم- كما نحتاجه نحن تذكرة للناسي ومعونة للغافل- ولكن ذلك إشارة إلى مكانة القلم والكلمة المكتوبة في تقييد شوارد المعانى وأوابد الأفكار  الأبكار.

   لا تكتف بهذا، بل أجل نظرك في أسماء سور القرآن تجد من بينها سورة تسمى “سورة القلم”، وأنه سبحانه في مفتتحها أقسم بالقلم  فقال سبحانه: {ن والقلم وما يسطرون.. ما أنت  بنعمة ربك بمجنون } (القلم:١) وأعظِمْ  به شرفا للقلم أن يقسم الله سبحانه به، ثم أن يقسم به سبحانه على تنزيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم عما افتراه المشركون عليه صلى الله عليه وسلم  من اتهامه بالجنون.

  هكذا ذكر القلم مقسما به على تنزيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن الجنون في السورة التي تحمل اسم “سورة القلم”، ثم يذكر القلم مرة أخرى في سورة العلق حيث يقول سبحانه: {الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق:٥،٤) فإذا كان الشيء بالشيء يشرف، فقد حاز القلم الشرف من كونه أداة العلم ،والعلم – كما لا يخفى- أشرف مطلوب.

ولا يتوقف شرف القلم -الذي هو أداة الكلمة المكتوبة- عند حد كونه سبيل العلم، بل هو أيضا أداة البيان؛ فإنه ليروعك ويدهشك أن تتأمل كلام العلماء في بيان العلاقة الخفية بين مقصود سورة القلم واسمها،وما يدل عليه  ذلك من مكانة للقلم عالية،حيث يقول الإمام البقاعي: “مقصودها- أي سورة القلم – إظهارُ ما استتر وبيان ما أبهم في آية {فستعلمون من هو في ضلال مبين } (الملك:٢٩) بتعيين المهتدي الذي برهن على هدايته حيازتُه العلم الذي هو النور الأعظم ..وأدَلُّ ما فيها على هذا الغرض (ن) وكذا (القلم)؛ فلهذا سميت بكل منهما وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك”.. ثم قال :”وأما القلم فإبانته عن المعارف أمر لا ينكر” [نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ٨٩/٨]، فارجع البصر كرتين في هذا الكلام لتدرك أن السورة التى اضطلعت بإظهار ما استتر وبيان ما أبهم في سورة الملك التى قبلها من شأن الضال والمعتدي ،هذه السورة سميت بسورة القلم؛ من أن للقلم مدخلا في إظهار المستتر وبيان المبهم. فمن هذا وما سبق يتبين لكل ذي عقل كيف غدا القلم سبب العلم الذي هو أشرف  مطلوب وأداة البيان الذي به فضل الإنسان على سائر المخلوقات ؛ لأنه كما يكون باللفظ يكون بالخط ولا خط إلا بقلم ..وهما عماد الكلمة المكتوبة.

ثم إنك إذا أمعنت في التدبر غير مكتفٍ بما حزته من معان- كما لم تكتف الكلمة المكتوبة بما حازته في المقالة  السابقة من فضائل  ومحامد – فستجد السورتين اللتين ذُكِرَ فيهما القلمُ (العلق والقلم) أول  سورتين من حيث الترتيب النزولي للقرآن؛ فالعلق أول سور القرآن نزولا باتفاق العلماء،  والقلم هي الثانية نزولا بعد العلق على رأي كثير من العلماء، وإن خالف ذلك بعض العلماء المحدثين. ولهذا دلالة يبين عنها د/محمد عبد الله دراز بقوله: “ومما هو جدير بالملاحظة أن هاتين السورتين اللتين افتتح بهما الوحي -أعني سورة القلم والعلق- قد صدرت كلتاهما بالتنويه بشأن القلم …وهكذا جاء الإسلام من أول يوم داعيا إلى محو الأمية منوها بشأن العلم وتدوينه وتعلمه وتعليمه،وكفى بهذا فخرا للدعوة المحمدية أقامها الله وأدامها ” [حصاد قلم د محمد عبد الله دراز ص ١٨٩ باختصار].

  ودع هذا وتفكر مليا في أمر الحفظة الذين يحصون على الناس أعمالهم: ماذا قال القرآن عنهما ؟ قال ربنا :{وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون}، فمع كونهم حافظين فقد وُصِفُوا بكونهم كاتبين تأكيدا  للحفظ ، قال العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير :”وأجري على الملائكة الموكلين بإحصاء أعمالهم أربعة أوصاف هي: الحفظ، والكرم، والكتابة، والعلم بما يعمله  الناس،  وابتدئ بوصف الحفظ؛ لأنه غرض الذي سيق لأجله الكلام الذي هو إثبات الجزاء على جميع  الأعمال”. ثم قال: “.. وأما صفة الكتابة فمراد به ضبط ما وُكِّلُوا على حفظه ضبطا لا يتعرض للنسيان ولا للإجحاف ولا للزيادة، فالكتابة مستعارة لهذا المعنى  “[التحرير والتنوير، مختصرا]. وكلامه رحمه  الله ظاهر في أن  الكتابة وسيلة ضبط الأشياء وحفظها من النسيان والتبديل والزيادة والإجحاف. وفي وصف الحفظة بالكاتبين وما يدل عليه من مزيد الضبط بشرى للمؤمنين وتهديد وإنذار للكافرين والعاصين .

وخوفا من أن يطول  بي المقام وأنا  مستغرق في بيان فضائل  المكتوبة بما يتجاوز المقالة ، أختم بهذه الفضيلة التى تلقانا من تدبر الآيات التى استعمل فيها البيان القرآنى لفظ الكتابة مستعارا لمعنى الفرضية {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم. القصاص في القتلى} (سورة البقرة:١٧٨){كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} (سورة البقرة:١٨٠){يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام..} (سورة البقرة:١٨٣) {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} (سورة البقرة:٢١٦). وبالتأمل في الخيط الدقيق الرابط بين ما استعمل فيه لفظ (كُتِبَ) في هذه الآيات بمعنى (فُرِضَ) يتبين أنها أمور شاقة يصعب على النفس البشرية الالتزام بها (فالقصاص: سلب للحياة =والوصية:  سلب المال الذي يتمسك به المرء حتى آخر نفس= والصيام: كبح جماح شهوات النفس= والقتال:  تعريض النفس للهلاك)، ولعل السبب في ذلك تأكيد  الفرضية في هذه الأمور الشاقة حتى تقطع على النفوس أي  ذريعة للتفلت من هذه الفرضية، ولا وجه ذلك- والله أعلم-  إلا لما للكلمة المكتوبة من مهابة في النفوس بأن هذا المفروض قد كتبت فرضيته وأنه  قد جفت الأقلام  وطويت الصحف، فلا مفر ولا وزر.

وهذا حسبي من الدلالة على منزلة الكلمة المكتوبة، وإن كنت أخشى  أن تفاجئنى الكلمة المكتوبة بعد نشر المقالة – كما فاجأتني من قبل – بما لم يجر لي على بال من فضلها،  فتجبرنى على أن أتحلل مما أنا  عازم عليه في المقالة التالية إن شاء الله.

يتبع إن شاء الله…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى