الحارس ومعمل الكيمياء.. قصة قصيرة
د. أحمد حسين عثمان | باحث وقاص مصري
يقف الحارس ذو المعطف الأسود على مدخل بوابة المعمل التي تصدر منها كلمات ومصطلحات تصك أذنه دون أن يعلم عن معانيها شيئا، يبدو عليه الأرق يجذب أهدابه جذبا ليظل متيقظا ، يطل عليه العلماء من حين لآخر حين يستريحون قليلا من عملهم، يقول أحدهما للأخر:-
– لولا هذا الحارس لاغتالنا السوقة ولهشمت رؤسنا الأعداء .
تصل هذه الهمهمات إلى طبلة أذنيه؛ فينتفخ ويزهو وتمتلأ عروقه رغبة في التفاني في العمل
أشعل سيجارته وعيناه تطيل النظر إلى السماء ، يبدو أنه يتابع دخان سيجارته الكثيف المتطاير وهو يمسك بأعنة السماء، تعود المصطلحات والمشادات العلمية من جديد. يحدث نفسه قائلا :
– يا عم الواحد زهق من الكلام اللي مش مفهموم ، مفيش حد كده يشغل لنا أغنية للبنت بوسي ، الواحد نفسه يقف على باب مصنع أهو يفرفش ويضحك بدل الكآبة دي ، اللي مش عارف فيدتها ايه .
أخبر أحد الكيمائين مديره بأننا اقتربنا من الانتهاء وأن بشائر النصر تحلق فوق سمائنا وأن خضوعنا لن يتكرر مرة أخرى لأحد خارج بلادنا .
أجابه الآخر : نعم فكثير من المرضى ستجف دموعهم ، وستهدأ أناتهم .
قرر المدير منح الحارس وسام الإخلاص ، يبرق الوسام في يد الحارس ويمنحه مزيدا من الثقة… مزيدا من الكبرياء- خاصة بعدما تغنى باسمه الشعراء وكتبت فيه قصائد النصر ، ومن المدح ما قتل ومن المدح ما أعمى .
شعر في لحظة غرور أنه الشخص الوحيد الناجح، وأن نجاحه لابد أن ينقله لساحات أخرى ، دخل إلى معمل الكيمياء والعلماء منهمكون في أبحاثهم ، ظل يراقبهم في صمت ، سولت له نفسه أن يشاركهم وأن يبدي رأيه في التنظيمات الداخلية .
– نظر إليه المدير الذي منحه الوسام شذرا :
– حبيبي مكانك ليس هنا …. نجاحك ليس هنا .
ارتبك الحارس وتلعثم في رده ، وخرج منكسرا من وقع الكلمات ، شاهده بعض المارة :
قال له أحدهم : وماذا يساوون هؤلاء بدونك !!
وقال ثان : ويحهم انسوا أنك المخلص !!
وقال ثالث: تعرف لو أنصف الناس لجعلوك مكانهم .!!!
وقال رابع: أنت الملهم وأنت الأمن أنت المستقبل…..!!.
تعاظمت هذه الكلمات في رأسه وظن أن رضاه بهذه المساحة التي هي خارج المعمل جريمة في حق مجتمعه ، اقتحم المعمل رافعا سلاحه مخرسا كل الأصوات حوله ، تدخل بصورة مباشرة في صناعة الدواء وتشخيص المرض، بل وتشكيل المنظمة كلها القائمة على العمل ، جلس على الكرسي ـ وارتبط به واتحد معه وأصبح كل من ينتقص منه إنما ينتقص من الحق المطلق، ينتقص من أرض المعمل .
… تأخر إصدار الدواء حتى تناسى الناس وانقطع أملهم في العلاج، أصبحت الضحايا بالألوف .
أول قرار أخذه العامل : أنه أعطى وسام التقاني لبوسي .وقرر إغلاق المعمل وهدمه لتوسعة إحدى الكباري .
ساعتها : صاح المديرمذعورا بعدما ألقي في السجن بتهمة إهانة الحارس: كنا سننجح إذا كانت القوة وظيفتها حماية العقول وليس تشكيلها وغرس مبادئها فيها .