من رواية حارس الفنار
نافذ الرفاعي / فلسطين
……. توقف الحارس ساحبا نفسا عميقا: قرر الذهاب واستجلاء الحكاية، وجد متضامنين من جنسيات مختلفة، وعبد يجلسهم أمام المغارة الصغيرة متمردا على الاحتلال، سكب لهم شاي الاعشاب بطعم ونكهة البرية، أمسك أحدهم بدفتر وبدأ يكتب شرفات القريحة المتحررة، أضحى الدفتر سجلا لتراتيل الزائرين، فقد المكان عزلته المبتلعة، ووفود وأفراد المتضامنين تخندقوا ونام البعض مغمضا على أسى الطين، طبخ على النار في موقد جيري، يسبك أشهى طعام، رائحة الدخان وصرير الحطب وطلاء الطبيعة ونفاثة البهارات خليطا من الاعشاب خضب هواء المكان بروائح زيوتها العطرية.
انتشى عبد رجل الكهف بأسراره المفعلة بالمحاكمات الاحتلالية، وتتناسل القضايا يوميا من بلدية الاحتلال العمياء، ومن حراس الطبيعة كلاب الملاحقة، ومن سلطة البيئة اليابسة، ومن المجلس الاستيطاني الاقليمي المدفون بعنصريته الواهمة، ومن الإدارة العسكرية للتنطع، ومن الشرطة المتورمة، ومن البوليس السياحي المقعد، وعشرات المؤسسات الاحتلالية القميئة تنهال بقضايا، وأحكاما بالسجن والغرامة، محاكم واسئناف، جمع المتطوعون المتفوقون أخلاقيا على سادية اللصوصية الاحتلالية المال ودفعوا الغرامات والتكاليف، وفود المطربين والمغنين المجهولين تأتي من كافة أطراف العالم لتغني مع الإنسان والحرية وعبد رجل الكهف.
عازف الساكسفون يهز هدوء البرية بجنون لحنه المصبوغ بالرومانسية، يبعث طوقا شجيا من المشاعر المنفلتة وعلو الأحاسيس، تتخطى أي بارقة ترحيل أو تكبيل.
تزوره زوجته المحتدة بصداع يفترس قناعاتها بهباء صموده، تطل ما بين الفينة والأخرى محاولة إقناعه بالعودة المبهمة الى البيت، يزين لها السكن في كهفه الضيق والذي يتسع لروح الحضارة، يغويها بلذة الطعام المطبوخ على النار، تجامله: نعم لذيذ كرحلة ولكن ليس كأسلوب حياة، وأولاده يعتبرون القدوم اليه فسحة جميلة حال عدم مداهمة الجيش والشرطة،
تتمايس فتاة أسفل شجرة البلوط في طرف الحقل، وعبد مهدود من المرض بعد عودته من رهن الإعتقال، تشدو بعبارت التضامن وتلهج بالانحياز لقضيته، فجأة بلعت الكلام واتسع جفنيها، ظن أنها قد طمست لسانها، وأصوات خشخشة أجهزة الإرسال ولهجة أوامر، أحاط به ضباط الشرطة الاحتلالية يقرأون قرار محكمة التجني، وانطلق البلدوزر يهدم قن الحمام، ويطيح بمعرش العنب، ويقتلع بوابة الكهف مدمرا واجهته، ترنح من ثقل ألم، تصبب عرق على جبينه بغزارة، سقط على الأرض لولا الفتاة التي صرخت أقوى من هدير البلدوزر، واندفع طبيب جيش الاحتلال ليسعفه، فتح عينيه مع ضغط الطبيب لينعش صدره، ولفظ كلماته الأخيرة: لن أرحل.
لطمت الفتاة خديها، انسحبت الشرطة والجيش مسرعين كي يتبرأوا من دمه، مات رجل الكهف هدموا كهفه، لم يغتالوا صموده وما زال ظله منتصبا في البرية، ذئب يحرس أرضه من أنياب جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين السائبة، سرقوا زيفهم المدسوس، قطعوا وريدا للحب و سدوا شريانا عاشقا التراب.
مات رجل الكهف، هزمت الرياح الصفراء وانقشع الضباب الخافت، واختنقت دعاوى الاحتلال وأدواته برعدة آخر الكلام قالها: لن أرحل.
يحتضن أيقونته الكهف الملاذ ويتحدى المزاد لخمسين قضية في المحاكم ، يحاصرونه كي يستسلم، لكن موته حصار الحصار، الجسد والروح يتساميان فوق عسف الاحتلال، انهيار الاساطير التي تورث الأرض للمحتل، خرافة الاعتقاد، تسويغ السرقة والسطو ويعلن اللعنة على جون لوك ونظرية هذا الاستعماري بالاستيلاء على الأرض بدعوى استعمارها ومنح حقا في التملك للصوص والمستوطنين، أكبر بصاق في التاريخ على هذا الاستعماري الرخيص جون لوك، ألعن يا عبد بموتك خرابا لكل أحلام المستوطنين والمستعمرين.
تجمع عشاق الحقيقة المتجلية في أحلام رجل الكهف، وموته ليس نهاية أو فجيعة بل تكون الإلحاح لوضع نصب لرجل الكهف، يعلي حكاية مغمور مقهور يعزق حبا للتراب، تبرع خطاط متماثل مع الأحبار تعلم صناعة ومزج ألوانها في العراق، يدشن النصب متنقلا ما بين لوحة واللون البرتقالي والاخضر التركواز…………