تَهويماتٌ في الساعةِ الهامدةِ من الليلِ.. وطنٌ بِلا سَقفٍ ولا جُدرانِ
فايز حميدي | شاعر وكاتب فلسطيني مغترب
ضَوءُ النهارُ يَخبو شيئً فشيئاً ، الشّمسُ تَغربُ، تَتوارى وَراءِ الأفقِ تُخضبُ بالأرجوانِ وَخيوطِ الذهبِ نَسماتٌ نديةٌ تلفحُ وَجهه …
بَدأ يَميلُ الهواءُ الى البرودةِ ..
في هذهِ البلدةِ الغَافيةِ بينَ الغاباتِ التي تُحيطُ بِها إحاطةِ السِّوارِ بالمعصمِ ، لا شيءَ في لياليِ هذا الشتاءَ الباردةَ إلا ضجيجَ الحنينِ .
حَدثَ نَفسه ..
بردُ الشتاء وَمَطر شُباط ، لا يعملُ إلا على ايقاظِ الجروحِ القديمةِ ، بعضُ الجُروحِ من الأفضلِ تَركِها نائمةً ،إنها مثلُ عَرضِ البَحرِ كُلّما اقتَربنا مِنها إِزددنا إِنجِذاباً وألماً …
اللعنةُ على الأزمنةِ المغشوشةِ ….
اسْتَلقى على جنبهِ الأيمنِ ، وَضعَ يدهُ تحتَ رأسهِ ، أغمضَ عينيهِ ، تَنفسَ بِعمقٍ ، استعادَ مَلامحَ وَجهها الذي لم يَجدُ يوماً وَجهُ أُنثى يُذكره بهِ ..
يَا لِتلكَ المرأةَ ما أشدَ فِتنتها ..!!
خلفَ وَجهها تَختبئُ روحٌ كَم تَمنى لَمسِها ، وَكم من مرةٍ تَمنى تَقبيلُ صَوتِها وَكلامُها العَفويُّ والمليءُ بالسحرِ في الوقتِ نفسهِ …
يَا إِلهي يَحدثُ أن تَتعبَ الروحُ حدَّ المرضِ أحياناً ..
إنكفأَ على ذاتهِ كَسَجينٍ إحْتِجاجاً وَتمرداً ويأساً ..
لهُ روحاً رَقيقةً ، لم تَعد تَحتملُ جنونَ هذا العالمِ البائسِ …
وَبنفسِ اللحظةِ ، سَمِعَ في داخلهِ صوتَ أجنحةً تَخفقُ بقوةٍ ، طَيرٌ عظيمٌ يَرتفعُ بهِ نَحوَ السماء الزرقاءَ والأفقَ البعيدة ….
لاحتْ جُغرافيةُ الوطنِ المُهشّمِ والمُقسمِ ، وَزاوية مُشوشةٌ ذاتَ عُذوبةٌ مريضةٌ ، تَعْوي فِيها الريحُ مِثلَ ذِئابٍ جائعةٍ :
إنهُ مُخيمُ اليَرموكِ (مُخيم الشُّهداء) …
أحسَ بِطعمِ الفَجيعةِ ، بينما قَلبهِ يَنزفُ ألماً وحنيناً …
في تلكَ الأيامِ كانت سنةُ الغياباتِ المُتكررةِ ، كانَ زَمناً كالحاً مَزموماً بالحقدِ والصرامةِ ، كانَ الصَمتُ والإرهاقِ والوجومِ ..
استيقظَ جُرحهُ ، فاستنهضَ كِبرياءهُ ، عِندما اختَفى شبابٌ ، وَظهرتْ جنائزٌ ، وَسُمِعَ نواحٌ ، وأقيمتْ مَجالسِ عزاءٍ .
أصبحَ الحزنٌ معهُ اسلوباً ، والخوفُ شَكلاً للبقاءِ .
تتالتْ القصصُ المَنسوجة من عالمِ القذائفِ والصَديدِ والدمِ .
إجتاحتهُ رائِحةِ جِثثَ الشُّهداءَ المَدنيينَ الأَبرياء البُسطاءَ ،في صيف ٢٠١٢ م ، وَقد تَمددتْ أجْسادُهم الغضةَ في مَحلٍ مُحطمِ الغلقَ على كتفِ مَشفى فِلسطينَ على شارعِ الثَلاثين.
كان الجُرح عميقاً ، والفَضاءُ ضيقاً . الناسُ بين شُقي الرّحىَ ، ومع تَوالي المَواجع ، ظَهرَ بوضوح هَشاشةَ الوجودِ …
في ذلكَ الوَقت كانَ المُخيم يَنزلقُ في حفرةٍ لا قرارَ لها .
كانت الحياة مُرتبكةً بينَ المدِّ والجزرِ ،فَقدَ الناسُ حَاجاتِهم البسيطة وَتَحولوا إلى كائناتٍ مَقتولةٍ في أعماقِها ، بَاتتْ الحَياةُ سِلسلةً من الخساراتِ المُتعاقبةِ ، لا تَقبلُ الفَصلَ والخيارَ ، إمّا أن تُعاشَ ككل أو تُرفضُ جُملةً وتفصيلاً وَبالتالي النُزوح من جديدِ ….
غَمرتهُ حالةَ من الآسىَ … ابتسمَ بِحزنِ قَريةً إغتصَبها الطُغاةُ وِرَحلوا ..
فجأةً أنعشَ الحبُّ روحهُ بالخَصبِ ، اِجتاحتهُ رائحةَ خُبزِ التَّنورِ في طفولتهِ ، وَمُكوناتِ أيامَ الأُسبوعِ في أَزقةِ المُخيم :
القهوةَ وَفيروزَ وأحاديثَ السياسةِ
في ذلك المساء أدركَ أنَّ المُخيمَ كانَ فتىً وسيمً ، لَكِنهُ جبانٌ .
كانَ لِساناً بِلا قبضةً ، وَمنْ كانَ صَوتاً بِلا مِخلب ، كَيفَ يَجرؤ على الكلامِ ؟
مَرَّ الزمنُ ، عَلينا أن نَعترف !!؟؟
أن يبقىَ الإنسانَ مُتمسكاً بالوهمِ ، رغمَ وضُوح الرؤىَ ليسَ سِوى غَباء .
لقد كانَ الجميعُ بِلا بَصرٍ وَلا بصيرةٍ …ها نَحنُ نَزدادُ عُرياً وَبرداً أمامَ الحياةِ ، وَسقوطُ وَرقةٌ أُخرى عن شجرةِ العمرِ ..
في ذَلِكَ المساءَ المَجبولَ بالحُزنِ قَرعَ ذَاكِرتهِ كَلِماتُ الشاعرُ سُليمان سَعدَ الدينِ :
إمتطِ حِصانكَ وارحل
نحوَ الجُنونِ نَحوَ الموتِ إرحل
فَلاَ أنتَ مِنْ هَذا الزمان
وَلا أنتَ في عيونِهمْ أشهل
صَرخَ الفضاءُ … كَفاكَ تَرجل
السّرُ يَأتي مَرةً واحدةً
فَكنْ أَسمىَ منْ السّرِ وأنبل
….
(القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية)