ضحيّةٌ لعنف الأب أم ابنةٌ عاقّة!
سهيل كيوان | فلسطين
قالت العربُ «كلُّ فتاة بأبيها معجبة» ولكن هذا ليس دقيقاً، فهناك فتيات لسن معجبات بآبائهن، نجد هذا في كثيرٍ من البَوْح لدى فنانات وكاتبات تعرّضن في طفولتهن إلى عنف أسري.
أكثر الناس يدفعون بالذكريات المؤلمة جانباً، فلا يتحدّثون إلا عن ذكريات جميلة، بشوق كبير، أطلق عليه اليونانيون اسم نوستالجيا.
نضبطُ الدماغ فيكربِلُ ويغربِلُ حتى تصبح كل الذكريات جميلة، الأسرة، والحارة، والبلدة، نلمِّعهم في ذاكرتنا حتى يصبحوا أجمل الناس وأنبلهم وأكرمهم.
إلا أن بعض الناس ومنهم الكُتّاب، تلحُّ عليهم بعض التفاصيل المؤلمة فيبوحون بها.
هذه المرَّة باحت كاتبة وابنة كاتبٍ كبير بأن والدها كان عنيفاً معها في طفولتها، وليس لمرة واحدة، ولا في لحظة غضب عابرة لم تتكرر، بل أنه كان معتاداً على ضربها وإذلالها وشتمها لسنوات طويلة.
إنها الكاتبة غالي عوز، ابنة الكاتب العبري الشهير حاييم عوز، الذي ذُكر اسمه عدة مرات كمرشح لجائزة نوبل للآداب، حتى رحيله عام 2018 وهو حاصل على أرفع الجوائز الأدبية العالمية، منها جائزة جيته، وكافكا، وهاينة، وعشرات غيرها، وأعماله مترجمة إلى خمسة وأربعين لغة، ويعتبر واحداً من كبار أدباء العبرية، إضافة إلى أنه من أهم أركان اليسار الصهيوني، فقد كان ناطقاً باسم حركة «السّلام الآن» إبان تأسيسها في الثمانينات من القرن الماضي.
في العام 2011 أرسل روايته المترجمة إلى العربية (قصة عن الحب والظلام) إلى القائد الفلسطيني الأسير مروان البرغوثي في سِجْنه. وعوز دعا يهود العالم إلى الضغط على إسرائيل للاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة ذات سيادة، ووصف جماعة تدفيع الثمن من المستوطنين بأنهم نازيون جُدُد.
ولد حاييم عوز في القدس عام 1939 لأسرة من المتعلمين والباحثين في الأدب والفلسفة.
عندما كان في الثانية عشرة، وضعت والدته حداً لحياتها، فتبنّته أسرة رئيس بلدية تل أبيب الحالي (خولدائي) التي كانت تعيش في كيبوتس خولده على أنقاض قرية خَلدة الفلسطينية قضاء الرّملة، حيث ترَعْرَع وتزوّج، وأصدر أول مجموعة قصصية عام 1965 وأنجب أبناءه الثلاثة هناك، ثم ترك الكيبوتس عام 1986.
قبل أيام، نشرت صحيفة هآرتس فصلاً من كتاب ابنته غالية عوز الذي صدر مؤخّراً (شيءٌ متنكرٌ في قناع الحُبِّ).
تقول الكاتبة واصفة إحدى جولات عنف والدها: «في يوم ما، كنت في الثامنة من عمري، وكان هذا في ساعة القيلولة، وهو وقت مقدس ينام فيه، دخلت المطبخ لإحضار شراب لي ولصديقي حيث كنا نلعب في الحديقة، فأحدثتُ ضجّة» تقول إنه استيقظ غاضباً وتقدّم منها وجرّها من شعرها حتى عتبة البيت، وسكب على رأسها إبريق قهوة بارداً، وشتمها ووصفها بأنها زبالة.
إلا أن الحادثة لم تكن عابرة، فهذا العنف تواصل على مدى سنوات.
كتاب ابنة عوز يعتبر بمثابة صفعة لوالدها وتاريخه، ولكنه صفعة لإنسان ميِّت لا يستطيع الدفاع عن نفسه.
الآن جعلت مئات الآلاف من قرائه يتساءلون عن صدق الأفكار الإنسانية التي عبّر عنها في قصصه ورواياته ومقالاته، إلا أنها تطرح سؤالاً أدبياً أكثر طالما طُرح، هل كل ما يكتبه الكاتبُ يمثّل شخصيته الحقيقية؟
هل ممكن أن تكون إنساناً حسَّاساً ورقيقاً جداً في كتاباتك وعنيفاً في حياتك اليومية! هل يمكن أن تكون فارساً مغواراً في شِعرك وجباناً رعديداً في الواقع؟
ثم لماذا كتبت الابنة ما كتبته الآن؟ هل بحثت عن الشهرة؟ غالي عوز كاتبة أطفال، وحاصلة على جوائز رفيعة، ومبيعاتها كبيرة، فهل هو العطش إلى مزيدٍ من النجوميّة ولو على حساب خدش صورة الأب ذي الشعبية الكبيرة؟
في مقابلة صحافية معها، وصفته بأنه كذاب، لكنها أضافت بأن لا تقاطعوا كتبَه، وتعاملوا معه كفنان، فتولستوي كان ربَّ أسرةٍ سيئًا جداً، وكذلك تشارلز ديكنز.
شقيقها يقول إنه يتفهمُّها، ولكنه يعرف السَّبب الحقيقي وراء كتابتها هذه! فما هو السبب الحقيقي يا ترى؟ وهل يمكن لابنةٍ أن تشوّه اسم والدها إلا لسبب قد يكون فظيعاً!
والدتها تقول بأنها لا تذكر شيئاً من هذا، لكنها تعترف بأن ابنتها تتألم بالفعل، وهي مقاطعة للأسرة منذ سبع سنوات، حتى أنها لم تزر والدها في مرضه حتى رحيله عام 2018، رغم محاولاته للتفاهم معها.
فجأة، أصبحت غالية حاييم عوز مادة مطلوبة للبحث على محرِّك غوغل، والجميع يريد أن يعرف من هي ابنة الكاتب الكبير التي تهجوه! وقد طارت أخبارها إلى الصفحات والنشرات الثقافية عبر العالم.
هل عانت حقيقة من عنفه، أم أنها تريد أن تجعل من جثة والدها جسراً للشهرة ولمبيعات كتابها الجديد؟
خصوصاً أنها تمارس الكتابة منذ ثلاثين عاماً، فلماذا لم تكتب وهو على قيد الحياة ليتاح له الدفاع عن نفسِه؟
هل تُسمّى هذه شجاعة؟ أم أنه غدر وخيانة للأب وطمعٌ في الشُّهرة من خلال شُهرتِه!
ألم تستطع كاتبة قصص الأطفال أن تتسامى وتتسامح حتى مع والدها؟ فهي، بلا شك، تكتب للأطفال عن التسامح والمحبة؟ أم أن كتابة نَصٍ لافتٍ تتغلب على كل الاعتبارات الأخرى؟
لكن وفي الوقت ذاته، ربما كان الألم كبيراً بالفعل، بحيث إنها وجدت نفسها مضطرة إلى نبش عظام وقبر أبيها!
خلال مراجعتي لبعض ما كُتب عن عوز الأب، انتبهت إلى إشارة قد تكون مفتاحاً لحل لغز عنفه مع ابنته، في أحد نصوصه التي نشرت عام 1977» يخاطب والدته التي انتحرت: «أيتها الحُفرةُ والترابُ والكلسُ والرُّخام، اسمحوا لها بأن تخرج، يجب أن نتحدَّث، وأنا مضطرٌ أن أسال، وعليها أن تجيب، وإلا فسوف ينتهي الأمر بصورة سيِّئة، ونساءٌ بريئات سيدفعن ثمناً باهظاً لا ضرورة له». فهل كانت ابنته غالي واحدة من النساء اللاتي دفعن الثمن انتقاماً من والدته التي انتحرت وتركته يتيماً، وهل ستكون هذه فاتحة لشهادات نسائية أخرى بحق الكاتب الكبير كما يحدث عادة بعد إطلاق الرصاصة الأولى!