نزوح جسد

عبد الله زيادة

‌في مسار الرحلة البعيد ..كل الليالي كانت حالكة ..لم أرى النور فيها سوى تلك اللحظات التي كنت أعيشها وأنا أسدل ستّار نافذتي منتظرا ً بزوغ الفجر…كنت أحتسي قهوتي ليس حبا في القهوة بل معزيا ً نفسي في الكثير من الذكريات ..حقا ً بحر ا ً من القهوة لا يكفي لتأمل الذاكرة .. كان يمر بعض الأشخاص في مخيلتي كأي طير جريح لا يملك سوى الهبوط على أنين الوقت ..هكذا كان يخبرنا ذلك الطفل المشرد في جنح الظلام بحثا ً عن آهات أمه في بحر الظلمات ..ظل يخبر شقيقه الأصغر أنهم في نزهة عابرة ..ما أعظم الصبر حينما يتفوق على الوجع..في إحدى الليالي بينما كان حفيف الأشجار كطفل ٍ يأن بصمت ..أراد ذلك العابر لقارات المستحيل أن ينقذ أخاه الذي يحتضر ..أوقد له نارا ً ..فأخبره أنه سيظل يشعر بالبرد طالما يذرف الوجد خارج حدود الوطن ..! جازف كثيرا ً لصيد وليمة اليوم لسد جوعه ..فأخبره أنه شبع من الألم ..من الغربة ..من البعد والفراق ..لا يوقظه من سباته سوى أن يستظل بظل زيتونة البيت البعيد  ..بعضا ً من ثواني الأمل..ويده مكبلة بالحنين ..وإذا بعيناه تشخّص نحو الوطن ..فارق الحياة أو بالأحرى رحل إليها من عذاب واقعه ..أكرم الشاب أخيه على ضفاف النهر ..ذلك النهر الذي يصب في إتجاه وطن الطفولة ..غرس قلبه ومضى .. حمل كل أعباء السفر ..والأسوأ لحظات الماضي..نعم وبعد مسافة من الزمن ..وصل لوطن ٍ آخر ..كل من فيه مرّوا على الموت ..حلّوا ضيوفا ً في بقعة من الأرض منحتهم الساعات وصادرت الزمن ..كل جهاتها ..كانت بالنسبة لهم هي الشرق ..نحو الوطن الأم..الذي يجمعهم خيام من الوهم ..أعمدتها فقط الذكريات ..فلا مستقبل هنا ..ولا حاضر هنا ..هنا بضع ليالي دون قمر .. فقط ليالي ..فالشمس لهم فوق البيدر البعيد .. وحينما إنتهت الحرب .. عاد للوطن .. جمع رفات أخيه تحت زيتونة البيت كما تمنى ..عاد للوطن ولكن الوطن ظل بعيدا ً يبحث عن أمه في بحر الظلمات…بحر ٌ تشكّل في أعماقه برمودا العجيب ..الذي يسرق الأحلام من قلوب الأحبة..ويبتلع الماضي بكل تفاصيله ..ليطفو الجهل والجرح فوق الطموح ..ويغرق الأمل في مآقي حالمة …ثم صعد قاسيون قليلاً…أدرك من قمته كل العالم سوى دمشق ..فتنفّس بعمّق..حينها فقط أدرك كل العالم دمشق …لكنه ظل وحيدا ًرغم إكتظاظ العابرين ..فقيراً لا يملك سوى المال ..غريقاً في حسراته المتواصلة..لم ينم ثانية ..قرر أن يكون شاعرا ً على جدار الأيام..أخذ يهجو غدر الخريف للفصول..كان سوداوياً حتى أنه رأى في ضوء القمر الجميل قبحاً قاتلاً: أنه ينير طريق اللصوص والحمقى القادمين لذبح مدينة الياسمين..نعم ظل ع هذا الحال.. حتى إحتله المرض من الداخل …فقال عبارته الأخيرة…عشت ُ كل حياتي باحثا ً عن الأمل ..متحدياً الصعاب وما ظننت ثانية أن العدو يلازمني (السرطان) ويسكن قلبي.. يتسلل في أعماقي …ينام ويصحو في أنفاسي لأنني بإختصار نسيت ُ نفسي كل هذة السنوات ولم أتذكر سوى الوطن ! نعم كان جسدي في ضباب النزوح وروحي في الواقع البعيد.. نعم إنني مسجى على فراش الموت  الان و أعلم مدى النزاع الأخير ..ولكن كل ما أعلمه أيضاً أن الموت على ثرى الوطن حياة والعيش في قصور الهجرة موت .فكيف لو كانت الهجرة نحو المجهول مكبلة بالضياع..وأنه بإمكاننا أن نعيش في الجنة قبل الموت …حينما لا نفارق أرض الأجداد…تلك حكاية الشاب الدمشقي مع الوطن..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى