ثعلبة.. وجوه في طريقي (1)

منى مصطفى | روائية وكاتبة تربوية مصرية

  تبقى المرأة نبعًا من الحياة والحب والعطاء لا يَنضُب، قد تتغير صوره، لكنه في الأصل دفَّاق، وكما أن الله منَح الرجل الرغبةَ في الكسب والقدرة على المواجهة مدى عمره، فقد منَح الأنثى القدرة على تزيين الحياة برِقتها وعذوبتها مدى عمرها، ولكل أنثى بهاء مهما كان عُمرها، فقلبُها لا يَشيب ولا يَهرَم، وما زلتُ أذكر قول إحداهنَّ وقد أقعدها الزمنُ، واشتعل منها شيبُ الرأس، وخطَّ الزمن ثقوبَه على بشَرتها، أذكرها تقول: انظري إلى هذه الطفلة التي تلعب وتلهو، وتسابق فراشات الحقل، وسُحب السماء ونجومها، إنني قعيدة الآن أمامك، إلا أن قلبي يفعل كل ما تفعله، وما منعني من محاكاتها إلا عجزُ بدني فقط!

هذه هي المرأة كما خلَقها الله، وليس كما خذَلتها الدنيا وخذَلها الرجالُ، فالمرأة المخذولة تنطوي على أحزانها، صمتها عذابٌ وحديثها جفاءٌ، وأحلامها سراب.

 فمِن النساء مَن خذلها أبوها، فقد حرَص على صُنع لوحٍ من الثلج بدعوى الأدب والتربية، لا يَمنحها عاطفة تجعل الأمان يَشِع في صدرها، بل جَفوة تجعل قلبها مضطربًا دومًا كمَن يَحسَب كلَّ صيحة عليه، ويظل ذلك الأب صَلْدًا لا يَلين إلا إذا وهَنت قواه، ونُقِلت مسؤولية الفتاة منه إلى غيره!

والمرأة المخذولة من أخيها الذي لا يمارس رجولته وسلطاته إلا على أُخته، فترى زوجته وابنته يَخرجان إلى حيث شاءَتا للتمتُّع بالحياة، ويَقهَر أخته ويَحرمها بدعوى الصون!

 إن خِذلان المرأة في هذين الرجلين، يولِّد داخلها بركانًا حبيسًا من الحب والعاطفة، ينتظر زوجًا تُحيطه بما انطوى عليه قلبُها، وحواه سرُّها مِن حب وتَحنان، وغالبًا فإن هذا الزوج سيَخذُلها هو أيضًا حتى وإن كان سويًّا؛ لأنه حريص على استقبال الحد المناسب فقط، لا هذا الفيض المدَّخَر الذي ربما يعتبره قيدًا لا حبًّا!

 يتبقى لها أملٌ واحد تترقَّبه وكأنه طوق نجاتها الوحيد، هذا الأمل هو ولدُها، فإن أفلح في استيعاب طاقتها العاطفية، نجا ونجَت، وكان أفضل الرجال في مجاله، وإن فشِل مثل سابقيه، فقد حكم الله على هذه المرأة بالسجن مدة بقائها في الدنيا، هذه هي المرأة المخذولة، أعيذكم بالله أن تَخذُلوها، وأُعيذها بجلاله من هذا السجن الذي هو أقوى من سجون الطغاة في كل زمن!

هذه فتاة مخذولة، بقِيتُ أتأمل خاطرها الكسير، والحزن العميق في عينيها، تبدي نشاطًا وحركة وانطلاقًا، لكنها في كل هذا آلة مُدربة تفعل ما يجب أن تَفعله، ليس ما نبَع من قلبها عفويًّا بلا قيد، وذات يوم قُدِّر لي أن أَقضي معها وقتًا خارج نطاق العمل، فكان ما يلي مِن خِذلان هو السرُّ القابع خلفَ حزنِ مُقلَتيها!

قالت لي:

ما زال هناك فاصل زمني حتى تبدأ الفترة الثانية من العمل، بيتي قريب، تعالَي معي لنستريح ونحتسي كوبًا من الشاي يُقلل مِن حِدة هذا الشتاء القاسي، نظرت في الساعة، فوجدت أمامنا ساعتين حتى يبدأ استقبال أولياء الأمور في لقائنا الأول بهم، فتأملتُ وجهها الجميل وفمها الصغير، وعينيها الغائرتين من الإرهاق، وابتسمت لها، ثم نزلت على رغبتها، وذهبتُ معها لسكنِها؛ حيث إنها غير متزوجة، وتسكن مع زميلة لها في سكن المعلمات، استرخيتُ على أريكة في الصالة، وتدثَّرت بعباءتي حتى تُعد الشاي، فبدأتْ هي – كغزال صغير بجسد متناسق وبحركة مهندمة – تَبذل جهدها في حُسن استقبالي، أتتْ لي بغطاء مِن الفرو، ووسادة ناعمة، تَلفني بهما، ثم قالتْ: لولاك في هذه الغربة ما احتملتُ العيش يومًا واحدًا، أكدتُ كلامها بقولي: قريبًا تتزوجين وتكوِّنين أسرة، وتنتهي الغربة؛ حيث إن أولادك هم أهلك الجدد، وذلك في محاولة مني لبثِّ الصبر في نفسها، وتهوين الأمر عليها، نظرت لي نظرة يأسٍ أو استنكارٍ، ثم ذهبت لتُكمل إعداد الشاي!

وبعد قسط من الدفء بدا لها أن تأنَس في بيتها، فخلعتْ حجابها، واسترختْ على كرسي مقابل لي، لنتحدث وأنا مشغولة بإضافة حبَّات من الهيل إلى الشاي لتُغير نكهته؛ كي أشربَ كَمية أكبر رجاءَ الدفء!

رفعت نظري لأَرد على سؤالها عن رأيي في الشاي، وإذا بي أَشهِق شهقةً خرَجت من بين أضلُعي يكاد يسمعها الأموات، يا إلهي، كيف يستحيل الجمال قبحًا في لمح البصر؟! كيف تشيب الرؤوس في مقدار خَفقة قلبٍ من الزمن؟! كيف تُرفَع الحُجب والأستار بقدَرٍ لو علمناه لجعلنا بيننا وبينه أمدًا بعيدًا؟!

نظرتُ إليها وإذا بي أمام كائن آخر لا علاقة له بالفتاة التي كانت تُدثرني منذ دقائق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى