فلسطينيو الـ 48 : الجريمة المنظمة سلاح للسيطرة في يد المستعمِر

أمير مخّول | حيفا – فلسطين

أسعى في هذه المقالة لتسليط الضوء على جوانب من “الحراك الفحماوي”، أو إن شئنا انتفاضة أم الفحم على الجريمتين المتداخلتين، سواء تلك التي تقوم بها عصابات الإجرام أم تلك التي تقوم بها الدولة وأجهزتها بعد أن حولتها إلى ركيزة استراتيجية في مصادرة الأمان وتفكيك المجتمع الفلسطيني في الداخل، وضمن مسعى أكبر لإضعاف الشعب الفلسطيني وضرب مقومات استعادة عافيته.

ثمانية عقود من الرقابة والضبط وهندسة التفكيك

في سنة 1941 كانت الحركة الصهيونية بقيادة الهاجاناه من جهة، والهستدروت من جهة أُخرى، وبجهاز الاستخبارات “شاي”، قد انتهت من إنجاز “ملفات القرى” التي يطلق عليها البعض “دفاتر القرى”. ملفات القرى هي عملية مسح اجتماعي وديموغرافي حمائلي وجغرافي واقتصاد منزلي وميول سياسية ونفوذ دقيقة للغاية لكل بلدة فلسطينية على حدة. كان الغرض من هذه الملفات أن يكون لدى الهاجاناه عند احتلال فلسطين خريطة واضحة المعالم لكل بلدة كي لا تحدث أخطاء ويسقط مقاتلون من الهاجاناه.

كيف تم جمع المعلومات؟ كانت الأجهزة المذكورة اعتمدت على مكاتب مهندسين للتغطية على الهدف، وقامت باستخدام مستعربين على شاكلة تجار أقمشة أو ألبسة للصغار، يدخلون إلى البيوت في ساعات الصباح ويسترسلون في الأحاديث التي تفيدهم المعلومات عنها؛ ولالتقاط الصور كانوا ينتدبون مبعوثين ومبعوثات يذهبون في نزهة في الطبيعة أو على شاكلة شاب وصبية عاشقيْن ضلّا الطريق ووجدا نفسيهما في أزقة القرية وقاما بتمثيل التقاط الصور الذاتية بينما يكونان وثّقا كل المعالم.

جرى تركيز خاص في هذه الملفات على العلاقات الأهلية، أية حمولة تتصارع مع غيرها، وأية خلافات في الولاءات السياسية، وصراعات النفوذ، بالإضافة إلى الأملاك المتنقلة بهدف افتعال السطو عليها لاحقاً لتأجيج الصراعات بين الأهالي، وليكون واضحاً بالنسبة إليهم مَن يمكنهم استمالتهم ليتعاونوا مع المشروع الصهيوني بعد احتلال البلدة، ومَن هم المناوئون المحتمَلون للتخلص من وجودهم في القرية بالطرق التي اتبعتها الحركة المستعمِرة.

شكلت البنية الاجتماعية للفلسطينيين هدفاً استراتيجياً للمشروع الصهيوني وأرضاً خصبة لسياسة العبث بها بهدف تخريبها وتجييرها في مخططات التطهير العرقي والاستيطان التي بلغت أوجها سنة 1948.

في سنة 2021، وبمضي ثمانية عقود على “ملفات القرى”، لم تعد إسرائيل بحاجة إلى تاجر أقمشة، ولا إلى زوجين “يضلّان الطريق”، فلديها مراكز الشرطة المتمترسة في قلب البلدات مباشرة، ومن خلال الكاميرات وأجهزة الرقابة لتقوم بهذه المهمة، لا تشغلها الجريمة بل سياسة الضبط السياسي والسكاني.

أسوق هذه المقدمة للتنبيه إلى أن موضوع العنف والجريمة الفردية مسألة لها جذور مجتمعية، بينما جذور الجريمة المنظمة ليست مجتمعية، بل جاءت إلينا بعد دفع الدولة بها من البلدات والتجمعات اليهودية، وباتت الأرضية التي تنفّذ الدولة من خلالها مشاريعها لتحطيم بنية المجتمع الفلسطيني في الداخل. مع الأخذ بالاعتبار أن إضعاف هذا المجتمع ليس كل الهدف، بل الهدف هو القضاء على قضية فلسطين برمتها وإسقاطها من جدول الأعمال العالمي والعربي، وحتى الفلسطيني نفسه.

تدرك الدولة أثر الجريمة، وتدرك أن السطوة الوحيدة على الجريمة هي أجهزة الدولة التي ترى في أزمات الفلسطينيين أينما كانوا فرصة لها. وقد أثبتت الدولة ذلك حين اعتبرت الجريمة المنظمة في قلب التجمعات الإسرائيلية خطراً على الأمن القومي، لأنها تبث في السكان روح عدم الأمان وتدفعهم نحو الهجرة من البلاد، وهذا نقيض المشروع الصهيوني.

حين نتحدث عن وجود أكثر من نصف مليون قطعة سلاح في هذا المجتمع، وهو ما يسمى “سلاحاً غير قانوني”، لكن مرضيّاً عنه بشدة ما دام موجهاً نحو الداخل، وأغلبية مصادره من الجيش الإسرائيلي، فالمسألة ليست تقاعساً من الشرطة أو أذرع حفظ النظام العام وإنما هي قرار استراتيجي للمؤسسة الصهيونية الحاكمة.

يدفع فقدان الأمان إمّا إلى الانخراط في أجهزة الدولة، وبالذات الأمنية، وإمّا إلى الهجرة الداخلية، أو من الوطن. أي أنه يدفع إلى التفتيش السريع عن مخارج للحل من خارج المجتمع. أهداف السياسة العليا لا تتغير، ولا نحتاج إلى الكثير من الدهاء لنرى الخط الرابط بين ملفات القرى وبين وثيقة كينغ لتهويد الجليل وتعزيز السيطرة على المجتمع الفلسطيني في السبعينيات، والتي اشتهرت لأنها انكشفت، وبين تعامل الدولة مع الجريمة والسلاح. الجريمة المنظمة هي سلاح الدولة في هندسة السيطرة والضبط وإعادة إنتاج الولاءات لها. إنها أداة لاستنزاف الفلسطيني الفرد والمجتمع برمته، كي يفك ارتباطه بقضيته وبطريقه الكفاحي، الذي لم يتحقق أي شيء منه من دون المضي فيه ودفع ثمن الموقف. في المقابل نرى السجون الإسرائيلية تعج برؤساء وأعضاء المافيا والجريمة المنظمة من اليهود، بينما يكاد لا يوجد عرب في السجون على هذه الخلفية. لقد دفعت الدولة في اتجاه أن تتزعم نخب المافيا العربية المافيا الإسرائيلية، لكن لتعبث فقط بحدود المجتمع الفلسطيني، ولم يحدث أن نشطت عصاباتها في المجتمع الإسرائيلي أو المرافق العامة الإسرائيلية إلا وقمعتها على الفور. لكنها سيطرت على أجزاء كبيرة من ميزانيات السلطات المحلية العربية من خلال سيطرتها على العطاءات وحتى على انتخاب هذا الرئيس أو ذاك في البلديات والسلطات المحلية. ومع الوقت تتعاظم سطوتها كما نفوذها.

سياسة إلقاء المسؤولية على الضحية

تتعامل الدولة مع الجريمة من خلال التصريحات الرسمية على أنها نتيجة ذهنية المجتمع  العربي والمشكلة فيه، بينما نحاججهم في أنه بحسب ذهنيتهم الاستعلائية يجب أن تكون ذهنية الجريمة متجذرة أيضاً في الضفة والقطاع مثلاً، وللتنويه هناك علاقات وثيقة يجري غض الطرف الإسرائيلي عنها بين منظومة الجريمة من جانبي “الخط الأخضر”.

بناءً عليه، وبعد اضطرار الدولة إلى التعامل مع المسألة نتيجة للضغط الشعبي الغاضب، فإن نتنياهو يسعى لمناقشة الخطط مع رؤساء السلطات المحلية العربية، وذلك ليس من باب الشراكة معهم بل لتوريطهم في صوغ الحل، وبالتالي تحميلهم مسؤولية استمرار شلال الدم والمجزرة اليومية. ومن دون مقدمات بدأت تدخل إلى الخطاب الفلسطيني في الداخل مقترحات وأفكار، مثل “إحالة التصدي للجريمة على الشاباك بدلاً من الشرطة”، أو “تكثيف زرع كاميرات الرقابة الأمنية في شوارع وحارات هذه البلدات، أو الشرطة الجماهيرية وتطوع الجيل الشاب فيها، أو إقامة المزيد من مراكز الشرطة في البلدات العربية. كل هذا يأتي بعد عام من وضع الطوارىء نتيجة جائحة الكورونا، ودور الجيش وقيادة الجبهة الداخلية وقواتها في إدارة شؤون المجتمع، بما فيه البلدات العربية الفلسطينية التي باتت جزءا من المشهد المُعاش.

وتقتضي الخطة الحكومية الحالية “لمكافحة الجريمة في المجتمع العربي” تشييد عشرات المقار ومراكز الشرطة. بينما نشهد على أن معظم البلدات التي تضم مراكز شرطة لم تتراجع فيها الجريمة بل اتسع نطاقها، كما تحولت هذه المراكز إلى ثكنات ثابتة لمراقبة التظاهرات الشعبية والحركة السياسية، وأداة لاستدعاءات الشباب المشارك في أعمال الاحتجاج إلى التحقيق. كما أن حضور الشرطة بات حضوراً اجتماعياً يذكّرنا بملفات القرى. وباعتقادي أن ما جرى في عام كورونا والجريمة والدخول الواسع والثابت للدولة وأجهزة القمع إلى داخل المجتمع الفلسطيني، وبعد استبعاد كل البلدات عن الشوارع الرئيسية، فإن البنية العملياتية لهذا الاصطفاف تشبه إلى حد كبير بنية احتلال وتطهير عرقي ثابتة وجاهزة، هذا على الرغم من قناعتي الشخصية بأن الدولة غير قادرة على تنفيذ مثل هذه المشاريع.

ما حدث في أم الفحم هو قمع الشرطة لتظاهرات الغضب التي انطلقت ضد تسارُع الجريمة وضد جريمة تواطؤ مؤسسات الدولة وتورطها. ولو استخدمت الشرطة هذه القوات لمواجهة الجريمة وملاحقة المجرمين لحدّت منها كثيراً. لقد تعاملت الشرطة بذهنية ارتكاب مجزرة، لكن فاتها أنها بقمعها الناس والقيادات على السواء قد أشعلت الشوارع غضباً وإرادة.

نمط الحراك

عادة ما يشكل الحراك لحظة انفجار جماهيري، ويضع حداً لحالات الإحباط العام وبث روح الأمل والقدرة لدى الناس الذين لا ينتظرون مَن ينوب عنهم بل ينطلقون لحماية الذات الفردية والجماعية. تتضاعف هذه الأهمية لكون الحراك انطلق في مرحلة يسعى فيها نهج جديد للسيطرة على الحياة السياسية الفلسطينية في الداخل، نهج قائم على التصالح مع المؤسسة الصهيونية الحاكمة وتطبيع دورها العنصري.

يقوم جوهر هذا الحراك الشعبي الشامل على وعي مفاده: إن لم نواجه الجريمة فلن تتراجع، ولن يواجهها أحد غير ضحاياها. وإذا لم نواجهها فبذلك لا نحمي أنفسنا بل نتعرض للخطر، ولسطوة الجريمة أكثر، وبالتواصل مع ذلك، لا بد من مواجهة المنظومة الحاكمة المتورطة التي تشكل بسياساتها أكبر دعم للجريمة. أي مواجهة الجريمتين معاً.

شعور الناس هو بأنهم مهددون فردياً وأُسَرياً وجماعياً، سواء أكانوا في بيوتهم أم في الشارع، أم بالقرب من المدرسة. وهناك شعور بضرورة تحمّل المسؤولية والتحرك. في عام الكورونا تراجع مفعول العمل الشعبي نتيجة الإغلاقات والحظر ومنع الانتقال بين البلدات. وهذا ما عزز، وبطريقة مبدعة، المنحى باتجاه العمل المحلي في عدة بؤر بدلاً من العمل القُطري المركزي. أي تطور من نمط اللامركزة. في المقابل تولّد شعور بأن وتيرة العمل الشعبي المنظم والمستند إلى القاعدة الحزبية الجماعية بطيئة قياساً بضرورة التحرك السريع، كما أن هناك أيضاً مزاجاً نقدياً تجاه القيادات السياسية ويحمّلها مسؤولية خارج قدراتها الحقيقية، وباعتبارها غير قادرة على تبيان النتائج، مع العلم بأن النتائج لا تتأتى في المدى القصير، ونتيجة لتراجع هيبة الحركة الوطنية المنظمة وقياداتها.

إن الشعور بالخوف ومصادرة الأمان هما مسألة تهز الناس، أكثر من مسائل لها بُعد سياسي أو اجتماعي فحسب. فالحراك الشعبي ليس بالنمط الجديد، وقد تجلى في عدة أشكال ومواضيع، أذكر منها حراك ائتلاف البديل لمحاربة جريمة شرف العائلة في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، والهبّة الشعبية المتزامنة والمتكاملة مع انتفاضة الأقصى سنة 2000، والائتلاف لمناهضة الخدمة المدنية الإسرائيلية، وحراك طالعات الفلسطيني في كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، وحراك حيفا، والحراك لإسقاط مخطط هدم البيوت والتطهير العرقي في النقب، وحراك العراقيب، والحراكات الأهلية النسائية والشبابية المحلية، أو على مستوى الأحياء لمواجهة الجريمة المنظمة واستعادة الأمان.

مواجهة الجريمة المنظمة

كثيراً ما يحدث عدم توازن في ردة الفعل العربية على ما يحدث بين فلسطينيي الـ 48. ويتمثل ذلك في عدة تجليات تتراوح بين كبر المفاجأة، أو كبر الإفراط في تعظيم الشأن. وراء هذا الشعور توجد نيات طيبة وتعطّش للفعل المولّد للأمل،  وللشعور الحقيقي بأن أي هبّة أو انتصار لأي جزء من شعبنا الفلسطيني هو إنجاز للروح للشعبية برمّتها. وهناك كما يبدو سبب آخر وهو رهبة إسرائيل في الوطن العربي، وهو ما لا يحدث مع الشعب الفلسطيني، وبالذات مع فلسطينيي الـ 48، هذا الجزء المنظم والوحدوي والمكافح.

تجربة المنتدى الاجتماعي العالمي والحراكات الاجتماعية توفر فضاءات واسعة لكل التعدديات والمبادرات الشعبية على أساس قيم مشتركة أو مطالب مشتركة، وقد انطلق المنتدى الاجتماعي العالمي في مواجهة المنتدى الاقتصادي العالمي المتعارف عليه كمؤتمر دافوس، والذي يجمع الشركات العالمية الكبرى التي تزيد دورتها المالية السنوية عن خمسة مليارات دولار، والتي تتعامل معها الدول الكبرى كشريك في النظام الاقتصادي العالمي الذي يركز على التجارة العالمية وتعاظُم راس المال واحتكار القوة، في حين يركز المنتدى الاجتماعي على العدالة الاجتماعية وعالم أفضل.

من أجل سلامة الثقافة الكفاحية لدى فلسطينيي الـ 48 هم بحاجة إلى توسيع أنماط الفعل الشعبي، فإذا كان الحراك يعمل في مجال محدد وبهدف محدد، فإن الحزب أو الحركة السياسية مبنيان على أساس البرنامج السياسي الاجتماعي الشامل، وهناك اللجان الشعبية والمبادرات الجماهيرية في بلدات متعددة، كل ذلك إلى جانب النموذج الأكثر ثباتاً والأغنى تجربة ألا وهو أطر العمل السياسي من أحزاب وحركات، ومن الأطر الكيانية التمثيلية كلجنة المتابعة العليا.

لقد نجح الحراك الفحماوي  في الاستفادة من تراكم تجربة العمل الجماهيري الواسع الأثر، سواء في أنماط الحراكات التي سبقته، أو اللجان الشعبية، أو في الحراكات في موضوع الجريمة، وبالذات منذ مسيرة كفركنا أواخر سنة 2019 والتظاهرات الكبرى التي تبعتها في مجد الكروم، وقرار تحويل المعركة إلى الشارع الإسرائيلي وشل حركته من خلال احتلال الشوارع الرئيسية، والربط بين جريمة العصابات وجريمة الشرطة والدولة، ثم كانت هبّة طمرة الشعبية الحزينة والغاضبة، والتي زادت سعة التحرك الشعبي، بالإضافة إلى عشرات المبادرات المحلية، سواء القطاعية الأهلية، أو النسائية والطلابية وغيرها. ليتبلور النموذج في ظل جائحة الكورونا ومحدودياتها، باعتماد الحراكات المحلية عوضاً عن صعوبات العمل القُطري وحرية الحركة. وما يحدث في أم الفحم وغيرها هو نماذج يجدر استخلاص العبر منها، من نقاط قوتها ونقاط ضعفها على حد سواء، وضمن رؤية مستقبلية لتعزيز الدور الجماهيري التعددي والتكاملي.

الحراكات الشعبية هي شكل تنظيم مجتمعي يشبه اسمه غير المحدد، أو ما يسمى عالمياً الحركات الاجتماعية، وهو يتمتع بقدرة جذب وتحرك سريع في موضوع محدد وحشد واسع وتفاعل بين كل أعضائه. وهو ليس خارج المعركة الشعبية ولا يطرح نفسه بديلاً منها، وإنما هو رافد للقوة الشعبية. الحراك هو أيضاً شكلُ فعل يملك القدرة على حشد هائل للطاقات في ظرف معين خلال وقت سريع، وحول هدف محدد وواضح. ليس بالضرورة أن نعتمد الثنائيات، إمّا حراك وإمّا عمل حزبي، بل ما أحوجنا إلى كل أشكال المبادرات والطرق الكفاحية المعهودة وغير المعهودة، لتتكامل كلها في كل فلسطيني وحدوي حتى تحقيق الأهداف وإحقاق الحق. هذه إحدى ميزات جماهير شعبنا، ولا يزال أمامنا المدى المفتوح لكل أنواع المبادرات، وهناك طاقات وبالذات شبابية متنوعة وهائلة، فلا سيّد للشارع إلّا من يتواجد فيه.

إن تميّز الحراك الفحماوي يتمثل في علاقاته وتفاعلاته الداخلية والجمع بين كل مَواطن القوة الفحماوية الشعبية والقيادية والتمثيلية، وهو جامع لكل شرائح المجتمع، وبالذات للرجال والنساء وبروح الشباب، ولكل الطيف السياسي المنظم وغير المنظم، وعلى أساس وطني كفاحي ومحدد الهدف في القضاء على الجريمتين معاً. كما أن الحراك مسنود من كل القوى السياسية في أم الفحم، وكذلك من البلدية، كما أنه مسنود جماهيرياً من لجنة المتابعة والحراكات المحلية الأُخرى والإعلام المحلي. لقد اجتمع في هذا الحراك أيضاً الخطاب العلماني والديني والقومي والمدني في هتاف وطني وحدوي يجمع أطياف جماهير الشعب. ومع هذا بقي الحراك مستقلاً، له تفاعلاته الداخلية التشاركية في اتخاذ القرار والتنفيذ الجماعيين، ويتمتع بقرب من الناس لأن الحراك ونبض الشارع متداخلان.

إمتحان الاستدامة

ما يميز أنماط الحراك أيضاً عدم استدامتها وثباتها في المدى الطويل. باعتقادي، وبناءً على تجارب محلية وعربية وعالمية عديدة، فإن سؤال الاستدامة هو السؤال الأصعب الذي يواجه الحراك، ويعود هذا إلى طبيعة هذا النمط من الفعل الشعبي.

هذه الظاهرة لا تعني إخفاقاً ولا فشلاً، بل حالة تصعيد كفاحي متسارع، تدفع بقوة نحو تحقيق هدفها المحوري، وهذا ليس بالأمر القليل، ولا التمحور في موضوع واحد هو بالأمر السهل. بخلاف تحديد الهدف، فإن الطريق إلى تحقيقه متعدد الجوانب والمسارات والعوامل المؤثرة إيجاباً أو سلباً. وبما أن للحراك هدف مركزي واحد متفق عليه، فإنه لا يستطيع أن يبني عليه برنامجاً سياسياً شاملاً، وإلّا تحول إلى حزب، وخسر تعدديته.

أي أن التحدي الأساسي للحراك ولكل القوى السياسية والمجتمعية الفحماوية والقُطرية، يقع في كيفية الإبقاء على  الحراك حتى تحقيق الهدف، أو الدفع نحو تحقيقه. مع الإدراك أن محاربة جريمة العصابات والسلاح وجريمة تواطؤ مؤسسات الدولة التنفيذية، هي مسيرة طويلة الأمد وتتطلب نفَساً طويلاً وقدرة مواصلة تمتد  إلى فترة طويلة. وفي هذا إن الحراك الفحماوي لا يزال يفاجىء باستمراريته وسعته وقدرته على استقطاب الطاقات الشعبية والتمرد على الإحباط، وعلى قدرته أيضاً في التعاون مع هيئات شعبنا، وبالذات بلدية أم الفحم واللجنة الشعبية فيها ولجنة المتابعة.

أعتقد أن الحركة السياسية بمختلف تنظيماتها ترى في الحراك عامل دفع كبير الأثر في الطريق إلى مواجهة الجريمة وبنيتها، ولحماية المجتمع من مخططات التفكيك، وللحيلولة دون التفتيش عن المخرجين الخطرين، سواء اللجوء إلى أذرع الدولة الشرطية والأمنية والركون إليها، أو الهجرة التي ستزداد وتتسع في حال فقد الناس الأمان.

في حين أن قوة الحراك في كنس الإحباط تعزز ثقة المجتمع الفلسطيني بنفسه، فهو يجمع كل القوى الغيورة على الصالح العام والمعنية بأخذ دور، سواء المؤطرة أم غير المؤطرة. كما أن القلق والأمان الفردي والعائلي والجماعي هي مسألة أولوية مباشرة عند الناس بالتساوي وبغض النظر عن انتماءاتها الأُخرى. ولذلك يجب أن يحافظ الحراك على تعدديته الأوسع والأشمل، وعلى استقلاليته من جهة، وعلى النظر إلى الحركات والأحزاب كسند له، وعلى الأخيرة إسناده والسعي لتوفير الأجواء لمواصلة دوره لأنه يخدم الهدف الجماعي. أي أن الاستدامة الممكنة هي من مسؤولية الحراك، ومن مسؤولية القوى السياسية.

هل بدأت المؤسسة الصهيونية الحاكمة بتنفيذ “خطة ب” سعياً لاستبدال النخب القيادية؟

حقق التصعيد الكفاحي الشعبي الجماعي المنظم إنجازات نوعية كبيرة، وفرض سطوته على سطوة الدولة، وعلى خطاب قادتها. لكن الدولة تملك أدوات أُخرى ولن تتراجع عن مسعاها الاستراتيجي لاستنزاف طاقات جماهير شعبنا وضرب بنيتها الجامعة. لذلك قد نشهد تصعيداً سلطوياً غير مسبوق في مسعى لسد الطريق أمام الطريق الشعبي، وللحيلولة دون أي نوع من العصيان. كما أن الدولة ترى في المرحلة الحالية فرصة لها لضرب القيادات السياسية الوطنية وتلتقي في ذلك مع قوى سياسية ومجتمعية معنية بصيغة “السلام الاقتصادي” مع الدولة في مقابل إنجازات مادية على الأرض، لكن ثمنها القضاء على الطريق الكفاحي والارتباط بقضية الشعب الفلسطيني، وهذه الأخيرة تمثلها النخب القيادية الحالية استمراراً للنخب التاريخية. الدولة لا تستسلم بل تقرأ الخريطة المجتمعية وتسعى لاستغلالها. في هذا السياق فإن ما يمثله الحراك الفحماوي مدعوماً من كل القوى الوطنية بتياراتها العلمانية والدينية، هو نقيض الطريق الذي تمهده الدولة. ومن هنا فإن شراسة القمع الدموي للحراك فيها من الدلالة بهذا الصدد.

ما يزيد الأمور تعقيداً هو تَشكُّل أمزجة، وأتمنى ألّا تكون مجموعات منظمة تسعى بصورة منهجية ومتواصلة للنيل من القيادات الوطنية، سواء على مستوى لجنة المتابعة أو القائمة المشتركة، أو بتسمية عامة “القيادات”، وإلى منهج لضرب صدقيتها والتشكيك في جدواها. والمشكلة في هذا هي ليست في شرعية التعبير عن الموقف، لكن في أن الناتج هو بث روح الإحباط والنيل من معنويات جماهير الشعب. فإذا كان كل شيء سلبياً ومرفوضاً، فالنتيجة هي الإحباط. والنتيجة الأسوأ هي أن خطاب النيْل من الحركة السياسية والقيادات سيؤدي إلى إضعاف المجتمع ككل وتسهيل تفتيت بنيته. لسنا بصدد نقاش نظري أو التفكير في أنماط مأمولة، وإنما ما يمكن هدمه أو إضعافه لن تليه إعادة بناء وتقوية بل هدم صافٍ، أو انتظار مرحلة انتقالية لا نستطيع توقّع ما سيليها. هذا الأمر لا يسري على الحراك الفحماوي لأنه مسنود من لجنة المتابعة وبلدية أم الفحم والأحزاب، وهذا مصدر قوة يجدر الحفاظ عليه.

وللتنويه أيضاً في هذا السياق فإن لجنة المتابعة بكل مركّباتها وقياداتها قامت بالدعوات والحشد الجماهيري وكانت بين الناس في أم الفحم كما يتوجب على القيادة أن تسلك، فمسؤولية القيادة هي أن تبادر وتنظم، وكذلك في أن تدعم المبادرات الشعبية، وليس هناك علاقات غُربة، بل هكذا تتصرف جماهير الشعب. في كل العالم هناك تراجُع للحزب السياسي، لكن ما يميزنا في الداخل هو أن الحركة السياسية لا تزال في أساس التنظيم المجتمعي الكفاحي. وهذا لم يعد أمراً مفروغاً منه في نظر إسرائيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى