الخيار الإبداعي عند شاعر المقاومة أشرف حشيش ج٤

ثناء حاج صالح | شاعرة وناقدة سورية

5- النزق الثوري شعرا

على الرغم من أن شعراء المقاومة الأوائل قد أشعلوا أشعارهم بلهيب التحدي، وأقاموا أودها بصلابة الإصرار ، وشحنوها بكل ما أوتوا من طاقات التشبث والتجذر العاطفي . إلا إننا نكاد نستشعر في أشعارهم كذلك ميولا للاعتراف بالأمر الواقع ، من حيث كونه واقعا . فهناك مرارة الواقع الثابتة والتي لا يلتف عليها الشعراء من جهة ، وهناك التحدي والمثابرة والمصابرة من جهة أخرى.
وهذا التناظر الواقعي أضفى على شعر المقاومة نوعا من التوازن المنطقي الذي يتوقعه القارئ .
ويستطيع الباحث تتبع خيوط الاعتراف بالواقع في شعر محمود درويش مثلا عندما يقرأ في قصيدته ( يوميات جرح فلسطيني)
صوتك الليلة،
سكين وجرح وضِماد
ونعاس جاء من صمت الضحايا
أين أهلي؟
خرجوا من خيمة المنفى،
وعادوا مرة أخرى
سبايا!
كلمات الحب لم تصدأ،
ولكن الحبيب
واقع في الأسر..
يا حبي الذي حملني
شرفات خلعتها الريح
أعتاب بيوت
وذنوب.
لم يسع قلبي سوى عينيك
في يوم من الأيام
والآن اغتنى بالوطن

في مثل هذا المقطع يبدو التناظر بين التعبير عن معاناة الواقع المر (كدافع نفسي للتعبير) من جهة ، والتعبير عن التحدي كرد فعل واضحا للعيان من خلال عاطفة الحزن أساسا .
فالشاعر يمتلك من الحزن ما يلجئه إلى إعلام القارئ بشيء من مكنونات ذاكرته القديمة البطيئة المتصلة بالواقع المر ، ثم يعلمه بعد ذلك بتحديه لذلك الواقع وصموده بوجهه.
لكن في شعر الأستاذ أشرف حشيش يبدو هذا التناظر في النص مختلفا، كونه يميل غالبا إلى جانب التحدي دون إعلام القارئ وتذكيره بالواقع المر وفقا لأساس الحزن. بل الأساس والدافع النفسي عند أشرف حشيش هو النزق الثوري الحاد والسريع.
فشاعرنا قد اختار أن لا يجتر المأساة وتفاصيلها الشعرية .
وحين نبحث عن الواقع المر في شعره نستنتجه استنتاجا فقط في ردود الفعل النزقة الي يرد بها الشاعر على هذا الواقع.
يقول
لسـت مطلوبـا لعينيـك أسـيـرا
لسـتّ يـا أختـاه للقمـع جديـرا
.
كـلّ طيـرٍ هـائـمٌ فــي جــوّه
وغرامي فـي سمائـي أن أطيـرا
.
وأنــا قـيـدي قـديـمٌ عـاجـزٌ
أذرف الشكـوى فيـرتـدّ قـديـرا

.فالقيد القديم عاجز .وهو قديم لأنه من زمن سابق لزمن الشاعر .وهو عاجز لأن الزمن السابق كان زمن العجز .
والشاعر حين يذرف الشكوى فإنه يحول حال القيد من العجز إلى القدرة . فلا يبقى لنا إلا فهم هذا الذرف باعتباره نوعا من التخلص . التخلص من الشكوى.

واذرفي عني مآقي غربتي
وارشفي وقتا من الحـزن قصيـرا
وهكذا يوصي الشاعر بأن يأتي من ينوب عنه ليذرف عنه. كما يوصي بتخصيص وقت قصير للحزن.
الشاعر ببساطة ، لا يرغب بأن يتشرب الحزن لوقت طويل .
.
وافتحـي الباب كفانـا غفـلـة
واسمحي للضـوء يجتـاح الأثيـرا

إن ذاكرة الألم القديم الذي يصبغ خلفية المشهد الشعري عند محمود درويش وسميح القاسم وسواهما يأتي في مقدمة اللوحة ويصعد على سطحها عند أشرف حشيش .ﻷنه ألم تفاعلي آني في لحظته. ومن ثم فإن ذاكرة الحزن عنده لم تمضغ الحزن وتهضمه ليكون أرضية للمشاعر التي ستمر من فوقه.
بل سيكون نزق في التعبير عن الألم يمنع الشاعر من الاسترسال في التعبير عنه .ويلجئه إلى الاستعجال في رد الفعل عليه . وبهذا تتناقص الجمل الشعرية التي تعبر عن الشكوى ويستبدلها الشاعر بالعتاب.
ولا شك أن في العتاب طاقة إضافية تزيد عن الشكوى .فالعتاب مبادرة ومباشرة في استخلاص الحقوق . بينما لا تخلو الشكوى من الندب والتسليم بما وقع على أنه وقع وانتهى أمره .
ويمكننا تفسير هذه المفارقة بين شاعرنا ومن سبقه من شعراء المقاومة الأوائل .بالاعتماد على اختلاف التجربة الشخصية والمرحلة العمرية التي يصدر عنهما الشاعر . فشعراء المقاومة الرواد مروا بالآثار التاريخية المباشرة للنكبة الفلسطينية وعانوا من النزوح ومن التشرد .كما مروا بآثار النكسة . ولم يكن في وسعهم تغيير ذلك الواقع الذي أصبح ماضيهم الشخصي . وهذا ما يفسر تسليمهم النص الشعري لذاكرة الحزن الذي لا مناص منه. كما أنهم هم من بدأ بإحياء الروح المقاومة واختلاقها ، وهو ما يعني أنهم لم يخضعوا في نشأتهم لتغذية ثقافية نفسية عاطفية يستقوون بها بداية، فبقي جزء من الضعف الذي أورثتهم إياه المعاناة مستمرا معهم . على خلاف ما حصل عليه الشعراء العرب عموما والشعراء( الفلسطينين) خصوصا ، ومنهم جيل الأستاذ أشرف حشيش الذي تغذى من مداد شعراء المقاومة الأوائل فكبر على التحدي ومقاومة القهر دون تحمله. ومن ثم فإن حالة النزق الثوري عنده تعبر عن عدم الرغبة في التحمل ، كرد فعل استباقي دفاعي .
فاقتليـنـي إنّ قتـلـي رحـمــةٌ
واحرميني ضحكة العيـش صغيـرا
.
وامنعـي الأقـلام عـنّـي إنـنـي
بدمائـي أشعـل السطـر سعـيـرا
.
أحكمـي إغـلاق سجـنـي ربــما
زارني النجـم مـن الثقـب منيـرا
.
واحـذري منّـي خيـالا طائـشـا
يركب الريح علـى الوغـد مغيـرا
.
وافرضي الصمـت هـدوءا ناعسـا
وامنعي الصوت ولو كـان شخيـرا
.
قد غدا يا سجـنُ جلـدي مسرحـا
وغـدا المخـرجُ فنّـانـا أجـيـرا
.
فاجعلـي للسـوط ظهـري ملعبـا
واجعلـي القمـع سخيـا ووفيـرا
.
وتباهَيْ أننـي عن أمتي
صرت للدمع وأوجاعي سفيـرا
.
فـإذا عـشـت طليـقـا ربـمـا
أعلـن التخريـب نهجـا ومصيـرا
.
وإذا زرت رفـاقــي ســاعــة
ربما أعلن فـي النـاس النفيـرا
.
أطلقـي فـي كـلّ دربٍ مخـبـرا
وضعـي بالبـاب قـوّادا غفـيـرا
.
وخـذي الثـأر بشـتّـى مخـلـبٍ
وافرشي الموت على الأرض حصيرا
.
وإذا شـئـتُ شـرابـا فامنـعـي
وإذا شـئـتُ طعـامـا فشعـيـرا
.
وادّعي فـي النـاس أنّـي مجـرمٌ
في ربى لبنان أرديـتُ (الحريـرا)
.
وسلـي غــزّة كــم أمطرتـهـا
حمـم المـوت وفسفـورا غزيـرا
.
وقــف العـالـم مشـدوهـا ومـا
حرّك الإجرام في النـاس ضميـرا
.
فاحظـري نومـي وحيـدا ليـلـة
فلقـد أعـددت للـنـوم سـريـرا
.
ولقـد أعــددتُ شوقا دافـئـا
ولقد أسرفـتُ فـي الحلـم كثيـرا
.
أسرعـي شُـدي وثاقـي إنـنـي
بعد قسط النوم قد صـرت خطيـرا
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى