النقد والدوائر المغلقة.. الوحدة العضوية (2)

مصطفى سليمان | سوريا

عن دوران النقاد في فلك دائرة واحدة مغلقة من القضايا النقدية المشتركة عبر العصور الأدبية مع اختلاف لغة التعبير عنها وألفاظ كل ناقد…! هل هذا استلهام؟ استيحاء؟ سرقات خفية للمعاني والقضايا؟

وقع الشاعر الفارس عنترة في دائرة الحيرة الإبداعية حين تساءل : ” هل غادر الشعراء من مُتَرَدَّمِ “؟ فهو يرى الدائرة تُطْبق عليه فلا يدري ما يقول من معانٍ فالشعراء قبله لم يتركوا له ما يقوله بعدهم.

والجاحظ رأى أن المعاني مطروحة على قارعة الطريق يلتقطها من شاء .

وقيل: قد يلتقي الخاطر مع الخاطر، كما ينطبق الحافرعلى الحافر.

تقرأ قولاً قديماً ثم تقرأ بعد قرون القول ذاته ، بمضمونه، أو بصياغة زئبقية مخادعة !

أهذا تطابق؟ أم التقاء أفكار و الوقوع في مأزق إبداعي مشترك؟ أم اختلاس ثقافي يتحايل على الفكرة بإلباسها ثوباً جديداً ؟

خذ قضية الوحدة العضوية في الشعر ورفض وحدة البيت؛ فـ (عبد القاهر الجرجاني) ، وبلغة تصويرية مجازية. يقول: ” البيت إذا قُطع عن القطعة كان كالكعاب تُفرَد عن الأتراب، فيظهر فيها ذلُّ الاغتراب . والجوهرةُ الثمينة في العقد مع أخواتها أبهى في العين ، وليس إذا أُفرِدت عن النظائر” .

وقال عمر بن لجأ لشاعر: ” أنا أشعر منك. قال : بمَ؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت … وابن عمه “! . فبيت (ابن العم ) نشاز وخروج يُخِل بوحدة القصيدة .

عمر أبو ريشة يرى أن المتنبي شاعر بيت عظيم( يتيم) … لا شاعر قصيدة !.

والعقاد يهاجم، بلغة نقدية حديثة، استقلالية البيت في القصيدة القديمة من خلال قولهم هذا أفخر بيت، وهذا بيت القصيد، وواسطة العقد. ” فالقصيدة تصبح كأنها حبات العقد، تشتري كلاً منها بقيمتها فلا يفقدها انفصالها عن سائر الحبات شيئاً من جوهرها “.

وقد طبق هذا على شعر أحمد شوقي في نقد رثائه لمصطفى كامل، إذ رأى فيها كومة رمل يعاد ترتيبها على نحو آخر فلا يُخل بها.

وقال (الحاتمي)، صاحب الرسالة الحاتمية، والموضِّحة في سرقات المتنبي : ” مَثَل القصيدة مثَل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض؛ فمتى انفصل واحد من الآخر وبايَنَه في صحة التركيب غادر الجسمَ ذا عاهة ” .

وابن طباطبا في كتابه ( عيار الشعر ): ” ينبغي للشاعر أن يتأمل شعره وينسق أبياته ويقف على حسن تجاورها أو قبحه فيلائم بينها لتنتظم له معانيها ويتصل كلامه فيها. .. وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً…وتكون القصيدة كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها “.

تأمّلْ قوله ” القصيدة ككلمكة واحدة !

والعقاد مرة أخرى : ” القصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته ولا يُغني عنه غيره في موضعه، إلا كما تغني الأذن عن العين أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة “.

وأدونيس يمزج الشكل والمضمون في الوحدة العضوية : ” الشكل والمضمون وحدة في أي أثر شعري حقيقي وهي وحدة انصهار أصيل ” ( تذكر ابن طباطبا : ككلمة واحدة ).

وشوقي ضيف : ” ينبغي أن تكون القصيدة كُلاً حيّاً من أجزاء…لتكتمل صورة القصيدة اكتمالاً لا يؤديه سوى الكائن الحي تسويةً عضوية تامة ” .

وعبد الرحمن شكري : ” مَثَل الشاعر الذي لا يُعنَى بإعطاء وحدة القصيدة حقَّها مَثَل النقاش الذي يعطي كلَّ أجزاء الصورة نصيباً واحداً من الضوء ” .

والجرجاني : ” سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تُعمل منها الصور والنقوش فإنك ترى الرجل قد تعدى في الأصباغ التي عمل منها الصور والنقش إلى ضرْب من التخيُّر والتدبُّر في أنفَس الأصباغ،وفي مواقعها، ومقاديرها، وكيفية مزجه لها ” .

ويَدخل في سجن الدائرة المغلقة قضية اللفظةُ الشعرية، والفكر الفلسفي والوجدان في الشعر، والشعر والأخلاق …

فإلى دائرة مغلقة أخرى…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى