التراجيديا المأساوية في رواية ” ساعة بغداد ” لشهد الراوي
عبدالجبار نوري| أديب وباحث عراقي مقيم في السويد
توطئة/تقول الكاتبة الروائية: “شهد الراوي” عن روايتها هذه وتجربتها في الكتابة : {روايتي عن أبناء جيلي ومدينتي بغداد التي غادرتها ولم تغادرني، عن طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وأمنياتنا وأحلامنا والتي حاولتُ أن أحميها من النسيان وأمنعها من الضياع، أنّها(الرواية النظيفة) كما يروق لي تسميتها لأنها لا تعتمد أشارة خارج منطق الأحداث التي صنعها الواقع والحلم والذكرى والوهم بعد الحد من دور العقل والمنطق في رسم النهايات الطبيعية المتوقعة، فهناك نهايات مفتوحة وأسئلة لم تتم الأجابة عنها، وهكذا هي الحياة بمجملها} .
النص/ رواية “ساعة بغداد” لشهد الراوي: إنّها منجز أدبي وثقافي رائع متكامل بمعنى الكلمة من بنية معمارية بهندسة لغوية ونصيّة نثرية في السردية الحكاواتية وبرصانة أدبية بالشكل والمضمون .
صدرت الرواية في 2016 عن دار الحكمة والنشر في لندن ، فقد صدرت طبعتها الثالثة من نفس الدار وبيع منها أكثر من 25 ألف نسخة ، كما تُرجمتْ إلى اللغة الأنكليزية ولغات أخرى ، وحصلت على جائزة الكتاب في أدنبرة المملكة البريطانية في يوم الخميس الأول من يناير 2018، والروائية العراقية شهد الراوي من مواليد 1986 وغادرت العراق عام 2003، وأبدعت في كشف مأساة (جيل الحرب والحصار) من العراقيين الذين وُلِدوا أبان الحرب فأكتوت طفولتهم المبكرة بها وعايشوا حصار الموت البطيء وتهجروا قسراً، وتيتموأ وتشردوا قهراً ، فهي تريد أن توصل القاريء :
إلى أن السعادة تنبثق من ليل الألم الطويل وتستمر في سردها إلى حكايات أشبه ما تكون فنتازية من نسج الخيال في الأنتحار والهجرة إلى الفردوس المفقود ، وسلاح الحصاراللئيم ينشب مخالبهُ في هذه الشريحة المترفة ، أما بخصوص الطبقة الفقيرة المعدمة أنها سُحقتْ بلا رحمة وأنتهى وجودها لكون بعضها سار بقناعته إلى حتفهِ الأخير الأنتحار من فوق جسور دجلة ، وتتخيّلْ الكاتبة : أن الناس يقفون طوابير طويلة يمارسون الأنتحار مجموعة بعد أخرى .
تدور أحداث الرواية في منطقة راقية من ضواحي بغداد في التسعينات من القرن العشرين ، وترويها (طفلة) تجد نفسها في ملجأ محصّن ضد الغارات الأنكلو أمريكية ، وتروي قصة جيل وُلِد من رحم الحروب العبثية وعاش حصاراً ظالماً وهُجر وهاجر في أعقاب كارثة الحرب والحصار، وفي ساعة بغداد تتابع عن كثب مأساة العراقيين تحت الحصار الأمريكي في التسعينات وما قبلها الثمانينات في حروب ظالمة عبثية لم يكن للعراقيين فيها ناقة ولا جمل وذلك بعيني طفلة عراقية كُتبَ لها أن تولد في بلد محاصر ولهذا تبدو رؤيتها للواقع ساذجة وسطحية أحياناً من خلال تبسيط الأمور إلى حدٍ كبير، ولهذا يمكن القول بأن الكاتبة أصبحت ناشطة لحقوق الأطفال أمام العالم المتمدن وأرتقت لبعث رسالة صادقة وواضحة لجميع البشر، وتقوم فكرة الرواية على محاور متعددة في مقدمتها محور الحب ومحور ثاني يمتاز بالديناميكية والطرافة والتي أجاد فيها (عمو شوكت) والشخصية الجذابة المرحة (باجي نادرة) التي تمثل الأقليم الكردي، وفي نظر الروائية وبحبكة أدبية تبدو للقاريء متقصدة أضفاء البسمة واللطافة على فجائعية وسوداوية تلك الحقبة المرعبة ممزوجة بالسخرية من شاعلي الحروب العبثية وسكاكين صانعي الحصار الظالم .
وتبدأ الحكاية التراجيدية المأساوية في ساعة بغداد من داخل الملجأ المظلم ، فكان أحتساب الوقت المحلي في مدينة بغداد حسب الساعة الزمنية في تلك الفترة السوداوية المظلمة ذات البوصلة المضطربة وهي تحكي تأريخ بغداد الحبيبة وظلامية سوداوية العيش ، أما بنظر مواطنيها (البغادلة) وبحبكة سردها الرصين لقد فقدوا الأحساس بالزمن وبكل شيء عدا الدموع وهم يتقاسمون مظلوميات النظام الشمولي ويعيشون بفراغ زمني موحش متمسكين بالقديم بكل عفويته وفطرته ، وبحبكة (فنتازية) للروائية تجعل المتلقي أمام جمهوربالرغم من أوجاعه ومرارة فجائعية الثمانينيات القرن الماضي تقتحم زمن العصرنة الحداثوية حيث صار بالأمكان رؤية (أورنمو) رئيس القضاء الأعلا بقصره في حي المنصور مستضيفاً الحاكم بأمر الأمبراطورية الأمريكية (بريمر).
أثارتْ الرواية ضجة أعلامية كبيرة لم يألفها الوسط الثقافي العراقي من المتلقين والقراء من قبل ، تحاول شهد الراوي في روايتها “ساعة بغداد” أن تلملم شظايا أشتات العراقيين وتعيدهم سيرتهم الأولى يوم كانوا عراقيين وكفى! ، ولأنها من عشاق الحرية ففي هذه الرواية أستعملت جُلّ أدواتها الأدبية لتعزيز صرح الحرية أنها تؤمن : أن الجمال أقوى من القبح ، وأن الوطن أحلى من الشتات وأن طائرها الأبيض العراقي الأصل لا يخونها مطلقا وأن طار كان مصيرهُ أن يعود لعشه الوطن.
والرواية ساعة بغداد هي واحدة من أكثر الروايات العربية لأثارة للجدل نقاد كونها تخالف في أسلوب سرد الخطوات السوية للرواية العراقية والعربية ، فقد أعتمدت شهد الراوي على شكل مغاير للبنية التقليدية التي تأسست عليها الأعمال السردية الكلاسيكية ويمكن القول أن شهد الراوي قد قطعت صلتها بالماضي بشكلٍ واضح، فهي من جيل الحداثة، وما رأيته خلال قراءتي للرواية في الأسلوب المعاكس في أدبيات الروائية أقول أن الكاتبة عندما جاءت بنصوص مخالفة للواقع السوي هو من تأثير بيئتها في تلك المحلة التي عايشت الحروب والحصار ، فتبرر شهد هذه التجربة بالقول: -(عندما تولد في سنوات حرب الخليج الأولى وتجد نفسك طفلاً في ملجأ محصّن ضد غارات التحالف الدولي ثم ترى نفسك في حرب الخليج الثانية وأنت تعيش مراهقتك في الحصار المفروض على بلدك ثم تصحو في شبابك على سقوط بغداد لتواجه حرب أهلية، فلابد أن تأتي كتاباتك خارج السياقات السردية التي عرفتها الكتابة قبلك)، فهذه بعض الأختلافات المعاكسة لروايات الآخرين:- تبدو الشخصيات غاية في التعقيد والأرتباك ومبهمة أحياناً وملغّزة في الكثير من الأحيان وخاصة في تمثيل الطفلة التي تختلط في ذهنها الوقائع وحين يمتزج الخيال بالملموس ويتعانق عالم الأحياء مع عالم الأموات.
– شهد تحررت من البطل التقليدي الواحد ، فهي تحررت من الثيمة الرئيسية الواحدة معتمدة ثيمات متساوية من حيث العمق والشمولية وأبراز أهمية الأفكار في كل ثيمة على أنفراد كالحب والحرب والأرهاب والهجرة والأغتراب والأنتحار والشعوذة والنبوءة ، أي يمكن القول – حسب قراءتي للرواية – لم تعتمد على البطولة الفردية بل الشاملة على مجموعة من الرواة مثل ناديا وبيداء وباجي نادرة والمشعوذ ، فهي قد دمرت آليات السرد المتعارف عليها سابقاً كالذي سار عليه من الروائيين الفرنسيين بأنتهاك محدودية الزمكنة ، فأعتقد هو مذهبها الأدبي الجديد في روايتها البكر وربما تنحو للتغيير لاحقا في نتاجاتها المستقبلية ، وعلى كل حال أتمكن أن أجزم أنها أتجهت إلى مابعد الحداثية التي تقوم على تحطيم بنية السرد التقليدي.
– وتبرز مذهب الحب والعشق بين فتيات مراهقات في الرواية بشكلٍ ملفت بالرغم من طغيان التراجيديات المأساوية للحرب والحصاروهو شيءٌ مخالف للواقع السوي ،بالأضافة إلى أن رواية “ساعة بغداد” في سردياتها لقصص الحب لا تنتهي بالزواج التقليدي كالمألوف في الروايات الأخرى .
أخيرا/أنها حقاً رواية ممتعة ولذيذة يشعر المتلقي كونه هو أحد رواة ” ساعة بغداد ” في حكاية الحرب والحصار ، لكوننا جميعاً تقاسمنا رغيفها وقلقها وخوفها ودفع ثمن رصاصتها الغبية في أعدام أبناءنا ، وأستلب منا كل شيء عدا دموع أطفالنا ، فساعة بغداد رواية حديثة معنى ومبنى وشخصياتها مدروسة وهي تعايش التراجيدية الملهاة المأساوية قدمت سرداً وصفياً عن طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وحتى كهولتنا وهي تتحدث بلساننا عن خيالاتنا وأحلامنا الممنوعة وواقعنا المرْ في محنتنا وخسائرنا وأقدارنا ، تألقت الرواية بكل ثقة لتنتزع الفوز لجائزة الكتاب في أدنبرة البريطانية وعلى التوقيع التأريخي للرواية العراقية ، وأعجبت بفلسفة شهد الراوي حين توحي لك خلال التعايش ما بين سطور السرد الرائع بأن ” الطبقة الوسطى هي صديقة الحكومة أما الطبقة الفقيرة فهي في عهدة الوطن .
فتحية إكبار وإجلال للروائية المبدعة ” شهد الراوي ” وإلى الأمام حيث مكانتك الجوزاء وشاهدة ناشطة وأديبة في سفر الذاكرة الأدبية العراقية
آذار2023