مراجعات في ذكرى رحيل السيد محمد محمد صادق الصدر

منى النجم | العراق

مرت علينا قبل مدة ذكرى الرحيل المر لعلم عراقي بارز وقائد همام وعالم نحرير ألا وهو السيد محمد محمد صادق الصدر هذا الرجل الذي اخرج الإنسان العراقي من دوامات الخوف المجلجل من طاغية امتاز بقسوة ما شهد لها مثيل بالتاريخ فإذا به أطلق ألسنة الناس ورفع الخوف من صدورهم وأزاح تلعثمات ألسنتهم فبدأت العصافير تغرد بحب الله والوطن بعد طويل صمت ممض  ومن هولاء الذين ترك السيد الشهيد بصماته واضحة عليه وعلى نهجه الأدبي والشعري هو الشاعر والصحافي والألمعي المغفور له الشهيد محمدعباس الدراجي مؤلف كتاب القصائد الخالدات الشهير وعدة كتب مهمة أخرى حيث وبوحي من السيد الشهيد الصدر المقدس أسس مجلة الكوثر النجفية العريقة التي تمنينا لها الدوام والتطور لتكون بمصاف مجلة العربي الكويتية.

والتي استبشرنا بها أيما استبشار عند صدورها المبارك والذي أزاح ثقل ما يجثم على صدورنا من كتابات تنوء بها كتيباتنا دونما أن ترى النور أو تلقى اهتماما فالطائفية ضاربة بأطنابها والممنوع يشل حركتنا ولا من وسيلة ألا المراسلة للإذاعات والمجلات خارج العراق لنشر وإذاعة ما يمكن أن ينشر خارج الحدود، وحينما صدر العددان الأولان منها تلاقفناهما تلاقف الجائع النهم وكنا على وجل ترى من يكون المؤسس؟ ولأي جهة ينتمي؟ وكيف ومن اين اتته الشجاعة ليؤبن السيد الشهيد بقصائد ومقالات نشرت في العدد الثالث المكتوب باليد والمستنسخ ليباع أمام مبنى براني السيد الشهيد لمحبيه وعشاقه ومريديه.

إنها صرخات السيد في جامع الكوفة منحته الشجاعة المتناهية وجعلته يخطو بمشاريع جريئة أخرى كفكرة الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب وفكرة استحصال إذن الدولة التي باتت منكسرة ووحيدة بعد سلسلة انهزامات عانتها من يوم الانسحاب من حرب الكويت الخارجية إلى حروب الداخل مع أبناء الوطن وقتلهم وتشريدهم حتى ضجت أرصفة عمان وسوريا وطهران وبلاد الغرب الأخرى بالمشردين العراقيين.

ولما نهض المارد من ركام العراق الجريح الذي يئن من جراح قاتلة قام على يد الممهد الأوحد والليث الأبيض الذي حول ليل صدام الغارق بالمجون إلى ليل ترقب وحذر فطالما صرح أزلامه (منذ مجئ السيد الصدر ونحن في حالة طؤارئ) نعم أأَبّن السيد الذي اغتالته وحوش صدام البشرية بلا رحمة ولا رأفة…. لهذا الرجل الذي بلغ من العمرعتيا ولم يرحموا أولاده فانتشرت مجلة الكوثر انتشارا رهيبا بعد ذلك التأبين الشجاع فانهالوا يستنسخوها بينهم مادام أنها ناطقة بجرأة وشجاعة بعد الصمت الطويل.

ولأن شهيدنا الدراجي كان متشعب المشارب والرؤى وأريحي الذات وصادق النوايا وسلس التعبير وذو علاقات مع كل الإطراف فقد نجح بالتأثير على أعوان النظام واستل منهم إذنا بصدور الكوثر بموافقة نقابة الصحفيين وهكذا صدرت بحلة زاهية ملونة تحمل نواقيس تنير الدرب للسائرين ودبابيس توخز المتخاذلين والخانعين والمتهافتين على موائد السلطة الحاكمة والمتذبذبين والمتنفذين الفاسدين وأصحاب المناصب السلطوية المتفردة بالحكم والتي تحكم بسوط من النار والدم وتكمم الأفواه وتشل الأيدي والتف المتعبون المناضلون الأخيار حول الشهيد ومجلته وهم من حملة القلم النظيف الذين أبوا إن تدنس أقلامهم بالكتابة لطاغية الزمان  وتزاحمت الأفكار وتوالت الكتابات والدراسات على مكتبه انتماءا واحتفاءا

وكان لهم أبا ومعلما ومرشدا وموجها ليتفادوا غضب الطاغوت وسعير حقده الملتهب المتعطش لسفك الدماء فأمر بالابتعاد عن كل ما يغيض اللانظام وأعوانه والذي سرعان ما دق ناقوس الخطر واخذ يدس انفه في كل شاردة وواردة ويرسل الكتب تلو الكتب لاستدعاء المرحوم ومحاصرته في زاوية ضيقة وتوالي أسئلتهم عليه من قبيل (لماذا تكتب بقوة؟) فيجيبهم بحكمة الشيخ الوقور التي اكتسبها من أستاذه ومشجعه الصدر العظيم الذي أدار دفة صلاة الجمعة بذكاء عجيب وفريد من نوعه (أكتب بقوة لان الدولة قوية) هكذا يسلبهم روعهم ثم يعيده إليهم بكلمة هادئة واثقة بنصر الله وتأييده وانطلقت الكوثر تزقزق حروفها بما يرضي الله ورسوله والمؤمنين الصادقين مع الله وأنفسهم وبدأ العلماء والأدباء والشعراء والشخصيات الفذة والناشطة تحتفي بالمطبوع وصاحبه وفتحت له الأبواب المؤصدة والتففنا نحن المتخمون قهرا والمثقلون هما وألما وغير المنتمين ألا لأنفسنا التي صممت على أن تظل بريئة الحرف وطاهرة الانتماء حوله وشددنا أسره وشمرنا عن سواعد لا تعرف الكلل لنسمع الطاغوت اصواتنا الهادرة بالانتصار لله والوطن ولنصفع إذن الدنيا التي أدبرت عنا زمنا ليس بالقصير لتكون في صف جلادنا ومريديه من زمر الشر التي الفت الشرور فاستساغت لحومنا وشربت حد الثمالة من دمائنا

ولم يطب للمتكلم الأوحد في بغداد أن تعلو الأصوات من حاضرة الدنيا النجف الأشرف بما لا يرضيه وأن يصدر مطبوعا لا يمجده أو يتملقه فما كان من سماسرته إلا الضغط لغلقها ومنعها من الصدور فانبرى الشهيد ليدافع عن إنجازه الحبيب والفريد فطاف على المتنفذين يستوضحهم الأمر فقالوا بهمجية واضحة وبلادة ممقوتة هذه المجلة خالية من صورة (الرئيس قائد الحملة الإيمانية) الحملة الزائفة التي تبناهابعدحرب الخليج الثانية (ولماذا الكتابات إسلامية شيعية ولماذا صحفيوها يكتبون بلغة واضحة صريحة عالية بالثقة ولماذا ولماذا ولماذا) وأصدروا تحذيرات لمجموعة من الكتاب فيها كنت واحدة منهم

ورضخ الشهيد لأن الجميع طلب منه المهادنة قليلا لئلا يقتل أو تغلق المجلة الوليدة فانزل صورة (للقائد الضرورة) على أولى صفحاتها وهو يصلي باعتبارها منشور ذو طابع إسلامي فما كان من الأرعن عدي إلا أن يدس بأنفه القذر في الموضوع لينشر صورته المفزعة على صفحاتها فمانع الشهيد ومانع ومانع فما كان من المقبور عدي ألا أن يهدده بغلقها وتصفيته جسديا وهكذا بدأت المحاولات الفاشلة واحدة تلو الأخرى وكان شهيدنا يقابلها بشجاعة بالغة

فقد أجاب احد أذناب النظام المعممين الشيخ عبد الغفور السامرائي الذي قال له مرة (أنت تركز على موضوع الوحدة الإسلامية نخشى أن تقتلك إسرائيل؟) فأجابه بنكتة هادئة محببة (أخشى أن تقتلوني انتم وترمونها على إسرائيل) وأذكر لما استدعاه هاتفيا محافظ النجف وطلب منه أن يأتي لمقابلة حمزة الزبيدي المسؤول الحزبي ألصدامي؛ فأجابه ببرود لافت للنظر ان شاءالله . وأغلق سماعة الهاتف فرفع رأسه إلي قائلا أنهم يريدون حضوري لمقابلة حمزة الزبيدي فلن اذهب ألا بعد مرور ثلاثة أيام حتى لا يظنوا إني خائف ومتهافت

واستمرت المضايقات بعدها بلا هوادة خصوصا في بغداد حيث فتح مكتبا للمجلة هناك فما كان من المقبور عدي ألا أن أوكل أزلامه بمهمة مراقبة الشهيد واحصاء تحركاته وسكناته ومن ثم أمر بتصفيته بحادث مروري مفتعل على طريق الكفل وهو عائدالى بيته في مدينة النجف.

وما أن سمعنا الخبر حتى عرفنا الفاعل والقاتل وما كان مني ألا أن اخرج في اليوم الثاني صباحا باكرا إلى مقر المجلة في خان المخضر في النجف الاشرف لأجد الأزلام قدسبقوني إلى هناك يهددون ويتوعدون ويأمرون بغلق المجلة وهم من أصحاب الرتب الكبيرة فألقيت نظرة على مكتبه وكانت الأخيرة ووقعت عيني على نسخة من المصحف الشريف عليه فبكيت وانأ أتخيل الفارس المترجل عنوة بلاعودة إلى مكتبه فكانت هذه القصيدة

( ياسادن الحرف)

جئت أنعى المكتبة

بدموع ساكبة

جئت ارثي ياابة

زمن الطهر

في دنيا الخنا

بعيون مكتئبة

وتفحصت مكانك

من هنا شعّ بيانك

من هنا انبثق النور رسالة

فغدا الحرف سيفا

يجز أعناق الضلالة

///

نظرة أرسلتها

حيث مكتبك أخيرة

ألمس الطهر جلالا

في زواياه الأثيرة

ألحظ الأوراق تبكي

تشكو في آه مريرة

سادن الحرف المسجى

يندب الحرف مصيره

ناح عمار ونادى

كوثري أين عبيره

ومداد النور ينعى

فيه أفكار منيرة

وحدوي ينشدالاسلام

من وحي ضميره

أبوي أنعش ألأيتام

حدبا في صفاء

من سريرة

أريحي فيه خصال الطيب

بادية كثيرة

زاهد عاش الملذات

عنده الروح كبيرة

فارق الدنيا أبيا

رافضا كل صغيرة

///

ورأيت النور في عينيك

أبا عمار يخبو

فارس الميدان طرا

خانه العدو فيكبو

قرح الأجفان بعدك

لمحبين وصحب

فسلام من فؤاد

شفه حزن وعتب

وكانت لجهودالاخوةالعاملين في فضائية العهد والأخ معتمد ألصالحي الذين تناولوا الشهيد بالذكر حافزا على كتابة هذه السطور اسأل الله أن يتغمد روحه الجنة وأتمنى لعائلته العيش الرغيد واسألهم الغفران لزلاتي وتقصيري في تبيان شأن الكاتب الراحل وان يتقبلوا وافر مودتي وإخلاصي.. ولدي مقالة شبيهة بموضوع القصيدة دفعتها للنشر لأكثر من واحد ولم تنشر بسبب التضييق آنذاك من كانت تتوفر لديه أرجو أن يزودني بها مشكورا

وأخيرا أتمنى لمحبي الراحل وتلاميذه أن يحتفوا بالراحل المقيم ونشر أدبه وكتبه وفاءا وعرفانا منا ولحقه علينا .. إنه جعل منا كتابا وشعراء يشار إليهم بالبنان كوننا نطقنا في زمن أدمن فيه الجميع الصمت المطبق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى