سرديات واقعية.. بوح و ذاكرة
فايز حميدي | أديب فلسطيني مغترب
تحزم بتلك الآمال، والأطياف تراوده، الوقت يمضي ثقيلا وبطيئا.. هم بمشيته إلى الحديقة النضرة، وقف أعلى الجسر الخشبي في حديقة تشرين الدمشقية ،فاجأه مياه النهر الآسنة وقال :
يا الله حتى المياه فقدت عذريتها واستدرك. وحده الحب يلغي كل قباحات الإنسان.
لكن العالم يبدو قاحلا ومجدبا ، شمسه كليلة، حياة باردة كمثل مدينة تعيش كآبة محيط متجمد.
يبدو واهن الخطوة، واسع القلب، طافح بالطعنات، وكأن جبلا على كتفيه
تذكر بيته، ابتسم
البيت تلزمه مكاغاة ترسم على جدرانه الفرح وضحكات الأطفال، تماما كطفل يحبو.
قطب جبينه.
لكن البيت يشكو من ظلم ذوي القربة ، تناثرت حجارته، وتحول إلى ركام، هناك، حيث بقاياه على زاوية شارع الثلاثين ….
الصمت له طعم الموت ، الروح تنزف دما
– هل من نكبات أخرى أيها القلب الحزين ؟
أغمض عينيه ، وهو يومئ إيماءة خفيفة برأسه
قال العرب قديما: الديار بأهلها لم يبق ديار، وتشتت أهلها.
ذات يوم ، شعر بأنه نجا من الغرق ، في لحظة كان يتعذر عليه القفز من السفينة التي تغمرها المياه، أما وقد غادرها فقد اعتقد أنه طوى صفحة مؤلمة.
لكن هيهات.
إنها الذاكرة لا تتركه بحاله يا لقساوتها ، وجعها يستبد به لدرجة يصبح غير قادر على احتمال الآن.
بدأ يهيم في صحراء أفكاره.
إن الحرب تشن منذ أزمان سحيقة، على الأقل منذ أن قتل قابيل شقيقه هابيل.
ولكن هذه الحرب الجهنمية القذرة، تقتل الحجر ، والبشر ، والماضي، والحاضر والمستقبل، على نحو مختلف.. يا للهول..
العار على المواقف والأفعال والأقنعة التي تتبدل باستمرار، وجوه تلبس أقفيتها ، وتفوح منها رائحة نتنة
يا للزمن القذر مخيم بوزن وطن، دجنوه، وسطحوه كحذاء ، وجعدوه كثوب عتيق
هاهي الأيام تمضي ، تأكل بعضها.
بعد حين، بعد سفر ، بعد موت جديد في بلاد الشمال البعيدة .
كانت أمسية تتميز بطراوة لذيذة.
فك ربطة عنقه، ولعن الذي اخترعها الإنسان يخترع وسائل عبوديته بنفسه ، رحم الله أيام آدم ، وورقة التوت
كان ممزقا بين شعورين: الفرح ، والحزن في وقت واحد.
فرحا، لأنه وجد كل ما من حوله يهمس بحب وفرح، الطبيعة الخلابة ، والبيت الجميل ، والعلاقات الدافئة.
حزينا ، لأنه يرى أبناء جلدته، فقراء، مهمشون سقطوا في أسفل الهاوية.
إنهم ينتمون إلى حضارة مهزومة …وعلى هذا وجد فرحه وحزنه ، يؤوب إلى نوع من الخيبة المتأملة.
اعتراه رغبة شديدة في الهرب من كل شيء ، وحتى من الجسد الذي منح إياه.
في تلك الزاوية في مقصف ذا جمال اسطوري مهيب …كانت مائدتهما مطوقة بنباتات باسقة كثيفة ، تحجب الرؤية ، وتوحي بالحميمية المواتية للبوح.
قال لها، وقد نبتت في عقله فكرة مفاجئة، ووجع تليد ذكره بوجعه :
إن للخيانة رائحة، واضطهاد الآخر متأصل منذ القدم ….ذلك الرجل الذي فقد طاقته الروحية، ضاعف من جبروته عبر طاقته الجسدية ، وافرط في استخدامها.
يقول التاريخ الموغل في القدم :
(إن النبي داود ، رأى زوجة أوريا الحثي تستحم بماء النهر، فأرسل في طلبها ، فجاءت إليه ونام معها ، ثم أمر بقتل زوجها وضمها إلى بيته، وولدت له النبي سليمان.)
رفعت فنجان القهوة الذي تحمله، وقرعته بفنجانه وقالت مبتسمة ، والعتب ينز من عينيها :
بصحتك عندما تجلس إلى المرأة يا عزيزي، ليكن حديثك يدور باستمرار حول ذاتها ، وشيئا منه حول ذاتك ، حول علاقتكما.
هل علي أن أحتفي بك كطفل ، وأصغي إليك كقائد؟
ابتسم …تأملها ، وكأنه للمرة الأولى يراها.
كانت انثى حقيقية، تفاحة ناضجة وطازجة، جسد متناسق ، طويلة ، ذات شعر أسود ، وبشرة بيضاء، مسربة بالأحمر الوردي، وعينين رماديتين تبدوان وكأنما تتغير ألوانهما حسب الضوء.
سحره جمالها ، ورقتها …إنها سيدة الدماثة
ترى ، ما الذي يرضي حاجات القلب المتعب ؟
شعرت أن عليها أن تقول شيئا ، يداوي جراحه العميقة
كانت تدرك أن شريكها من ذلك النوع من الرجال، الذي يمكن أن تقع في حبه من دون أن تفقد احترامها لنفسها.
قالت :
بصحة أصدقاءك وأحبتك المشتتين في هذا العالم الظالم
أجابها :
بصحة من بقي منهم على قيد الحياة ، على قيد الأمل …
شاب نظر رفيقته ظل حزين ….تمالكت نفسها على الفور ، رفعت فنجانها من جديد لتقول ، بمزيج من الحزن والحسرة والحنان :
بصحة من رحلوا ….
مع تباشير الصباح ، يناديه الفجر ، يشهق رذاذ الضوء المبلل بالندى ….
يبتسم …غمرته رؤية شديدة الإشراق …
الحياة جميلة ، يزقزق عصفور على الشرفة …
ترى ، هل ما حدث كان حلما أم حقيقة ؟