الحفرتي
محمد فيض خالد | مصر
آتاهُ الله بسطةً في الجِسمِ ، وخمولا في العقلِ، فرأسه الضّخم المكوّر فوقَ كتفيهِ العريضين المُكتنزين لحما ، لا يفرقه كثيرا عن هيئةِ الثّور ، وكأنّما الغباء المُستحكم استخلَصهُ لنفسهِ دونَ سواه، وعلى قدرِ ذاكَ الغباء، ينزحُ بهِ الطّمع كُلّ منزعٍ، حتى ابتنى لنفسهِ قصورا من الجَشعِ، مثلهُ الأعلى قارون ومن على شاكلتهِ من الغطاريفِ، تهتاجُ بينَ جوانحهِ رغبة، تقتلعُ من نفسهِ جذور الرّحمة ، تجعله يُحلِّق في تيهٍ ، يمسك عليهِ مسارب أفكارهِ ، مُبكرِا تنبّهت فيهِ غريزة الشّطارة ، يجول في هيكلِ أطماعه الذي لا تُغلق أبوابه ، لا حديث له إلا حديث الكنوز وما تعمره الأرض من خيراتها، يُكرّر في صلفٍ: هي ثمرة لكُلِّ قوي دونَ سواه، ينبش الأرضَ كالضّبعِ، استبدّ بهِ إغواء شديد، تراه مُصطنعا حكمة الشّيوخ وحنكة المجرّبين، دائما ما يَسيرُ بهذا الحنين، ينفخ في روحهِ الإثم والشرّ ، حتى انفلت منه زِمام نفسه ، قال ذات مرة لرفاقهِ : إنّه على استعدادٍ؛ لأن ينبش قبرَ أبيه لأجل الذهب، نفضَ الشيطان في صدرهِ أسباب الغواية ، حتى ألفته ، لا يتحرّك لسانه بين شدقيه، إلا بأقاصيصِ الحفائرِ والدّفائن، يحمل أثقالا من الشّجنِ في ظمئٍ لا تنفع ُ لهُ غلة، يتلوّن وجهه بظلالِ الألم ، فتشاهد دخان نفسه يحترق ببطئ ، يدكّ الأرضَ من تحتهِ ، قائلا في تَحسّرٍ : لو كان معي رجال ؛ لأزحت البيوتَ من مكانها، وامتلكت ما تحتها .
يجوبُ القرية يتفحّص دورها القديمة ، ويُناغي حوائطها المُهترئة في ارتياحٍ عجيب ، تنفرجُ شفتاه عن ابتسامةٍ مخبولة، يفوحُ منها نزيز الإثم والمعصية ، يطفح الغيظ من سحنتهِ ، يضرب بيدهِ فوقَ مسدسهِ الذي لا يُفارِق جيب جلبابه، تُزاحِم عقله الأفكار الطّائشة ، متوعدا من يعترض طريقه ولو كانَ ابنه ، أخبرت زوجته إنّه يأكل بشرهٍ أكلة البغل ، يقولُ لمن حوله في غِلظةٍ : لابُدّ من التقوّي ، فالحفر يحتاجُ للأشدّاءِ ، وبمرورِ الأيام أصبحَ خبيرا نافذ البصيرة ، أكّد مرارا ؛ إنّ نظرة منه تكفي لأن يميّز مكان الكنوز ، ويُحدِّد أعماقها في الأرضِ ، وكم تحتاجُ لحفرها من الرِّجالِ .
تُساوره رغبة محمومة ، أن قريته تعومُ فوقَ سراديب مكتنزةٍ من النفائسِ التي ادخرها الفراعين ، تَتبّع ذاتَ صباحٍ حفارا يحفرُ مصرفا على مشارفِ القريةِ ، أذهله منظر صخرة كبيرة ، اعترضت العمل ، جَمدَ في مكانهِ وهلع قلبه ، رفعَ عقيرته ، يحلف غير حانثٍ بقبرِ أمه ، إنّه مدخل قبوٍ من أقبيةِ الفراعين العِظام ، مطمورا في حافةِ الجِسرِ ، وفِي غبشِ اللّيلِ، تسلّل وبعض نفرٍ ، وأخذ ينبش بين تلافيف الظّلام ، والفرح يملأ مسالك نفسه ، لكنّ سِربا من طُيورِ الأمنيات حلّقَ فوقَ هامتهِ وابتعد ، خانته توقعاته حين انزلقت قدمه ، وانكبّ على وجههِ يُلطّخهُ غُبار الخيبة ، لقد كُسرت ساقه ، لكنّ عزمه لم ينكسر ، أوصى بمن يحملهُ فوقَ حمارهِ الهزيل ، يجوب بهِ الأزقة ، ويطوّف معه الجسور ، يَتسمّع أحاديثَ الحَفائِر ، يلعن الرّصد الذي نالَ من سَاقهِ ، وحَرمهُ كَنزه .