يا أبت هذا يوسف
عصري فياض | فلسطين
قبل سبعة عقود أو يزيد، كان الحاج سليم قد قابل شمس أول صيف حزيران في مروج المزار الواقعة شمال شرق مرج بن عامر، في يمناه منجل،وفي يساره غلال السبل الأصفر، وعلى جبينه الذي لوحته الشمس قطرات عرق لا تجف، ومن حوله أشقاء، وزوجة، وأبناء يكملون اللوحة التراثية الفلسطينية التي ينتابها القلق من المستقبل الموحش الزاحف عبر الآفاق نحو الوطن ،… ينفر الجمع إلى ظل الشجر، لالتقاط الأنفاس، وسد الرمق ببضع لقيمات من خير هذه الأرض، وأحاديث يتناولونها….
صالح ابن الحاج سليم،يلقي السمع بعناية وهم يتحدثون عن سيرة عمه الشهيد الشيخ فرحان السعدي، الذي أعدم شنقا على يد قوات الاحتلال البريطاني لفلسطين قبل سنوات، لقد أصبحت سيرة الشيخ فرحان حديث البيادر، ومواسم الحصاد وتراويد النسوة، وقوافي الزجل، هذا الفتى صالح حفظ الحكاية بعمق… وكَبرت فيه، وحملتها ذاكرته حتى حلت النكبة، وحملتهما معا على وقع حطامها الى مخيم جنين
///
بعد أن انقضت العقود الستة من العمر المعذب، وسني النكبة القاسية، لم يبرح الحاج صالح مكانه في مخيم جنين الواقع على الطريق المؤدي لمدارس الوكالة ، أصبح لديه العائلة المباركة الأولاد، كان أصغرهم يوسف الذي أكمل سن الرشد تحت وابل الصواريخ، واحتفل بيوم ميلاده بإشعال “الأكواع”، مساهما في نسج خيوط الأسطورة ، على وقع الملحمة 00
يوسف هذا الفتى الذي حمل إرث والده، بما يحمل من حكايا وعشق للمزار الذكريات والحياة والعزة… أشعل في نفسه الأمل في أن يشرق ربيع المزار من جديد… يوسف هذا الفتى الذي يمتلئ حيوية، كان من الفتية الذين احتضنتهم الأنقاض، فعميت عنهم أبصار الغزاة، فصعق كل من رأى آثار الكارثة والبطولة، وصمت يوسف كثيرا، وقرر امتشاق السلاح والالتحاق بركب المقاومين، وأصبح “يوسف العامر”
///
يظهر أن هذه الليلة هادئة نسبيا،اشتاق يوسف لخبز أمه،فدفعه الحنين لبيتهم الدافئ، إلتف حول المنزل بحذر، ودخل خلسة عبر سطح منزل الجيران الخلفي… فدخل المطبخ،فتداخلت مشاعر الفرح والخوف ، بينما أخذ يوسف في التقاط الطعام، وإرتشاف الشاي وسط تدافع الحديث والحركة داخل المنزل السعيد بوجود الابن الأصغر بين العائلة ، صاح أحدهم :- جاء الجيش …!!
أزيز الرصاص يلعلع في المحيط، هيأ سلاحه، وتسلق الجدار الى سقف المنزل في لحظات بلغت فيها القلوب الحناجر، وقفز في لحظة اقتحم فيها الغزاة المنزل بهمجية وإطلاق نار كثيف وخلع لأبواب الغرف والمرافق،قفز الى خلف البيت،وتاه سريعا في أزقة المخيم، بينما واصل الغزاة اطلاق النار في البيت التي توشمت جدرانه بآثار الأعيرة النارية، وعندما أيقنوا بان هدفهم قد فشل، إنتابتهم حالة الصرع المعتادة، فاخذوا يحطمون ويكسرون، بينما إقتيد الحاج صالح عنوة الى معتقل سالم العسكري كجزء من العقاب .
///
إنها ساعات الفجر الأولى من تاريخ الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني من العام ألفين وثلاثة ، يوسف الذي غلبه النعاس،أغمض عينيه قبيل أقل من ساعة أفاق على رنة هاتفه النقال،… نظر بتثاقل الى شاشة العرض ، قرأ اسم أبو علي ، ضغط على زر المفتا،ح ووضع السماعة على أذنه ثوان تغيرت فيها ملامحه فأغلق الهاتف النقال، وانتعل حذائه وامتشق سلاحه وغادر المنزل بحذر الى السيارة التي كانت تقف على طرف الشارع وانطلق الى قلب المدينة حتى وصل المكان ، هناك كان أبو علي وبعض الإخوة، كل يأخذ موقعه والهواتف لا تهدأ في متابعة ما يحدث ، هدير الدبابات في شوارع المدينة يرسل أصدائه في كل مكان حتى بزغ الفجر واتضحت أكثر هذه الوجه المتعبة ، قال احدهم: لا بد من الاشتباك سنبحث عنهم أينما كانوا، قال أخر وهو يغلق هاتفه النقال:هناك سيارة جيب تقف وحدها قرب الدوار الرئيسي لا بد من الانقضاض عليها ،….. توزع الجمع الى ثلاث فرق، الأولى وفيها يوسف وأبو علي ورشاد ونضال توجهوا الى زقاق محلات أبناء المرحوم شوقي المحمود ، وآخرون باتجاه زقاق النادي الرياضي ، أما المجموعة الثالثة فقد أوكل إليها الإسناد والحماية بالبقاء في مواقعها في البلدة القديمة وحي السينما ، كان يوسف أسرع الواصلين الى الزقاق ، تسلل وتبعه رفاقه،اطلوا بحذر فرأوا سيارة الجيب على مرمى بنادقهم أطلقوا النار بغزارة، وتقدموا باتجاه السيارة في لحظة انفعال ، نظر أحدهم حوله بعد أن ساوره الشك في وجود فخ وراء وقوف سيارة الجيب وحدها في المكان دون حراك ، طاف بناظريه متفقدنا شبابيك الأبنية المحيطة بالمكان ، أحس بوجود وحدات الموت الاسرائيلية تصوب بنادقها نحو المقاومين بإمعان ، فصرخ بأعلى صوته محذرا ، تراجع يوسف ومن معه الى الخلف قليلا لتفادي الكمين، لكن رصاص القناصة كان أسرع من خطواتهم، فسقطوا جميعا في دائرة الزقاق الصغيرة، وشواهدهم على الزناد تعزف لحن الكبرياء والمجد ،… فنزل المطر على هذه الوجوه التي أضاءت سماء جنين عندما غابت عنها الشمس .
///
انتشر الخبر،ولكن من ذا الذي يبلغ الحاج صالح؟؟ ، نادى أحد الجيران …فاطل الحاج صالح فقرأ في عيني جاره خبر يوسف فقال:- لا حول ولا قوة إلا بالله…
بلع همه وحزنه كابحا جماح نفسه وانطلق للمشفى ، شق الزحام حتى اقترب من جبين نجله فقبلها وهو يترضى عنه ،وعاد يمسح دمعه بأطراف كوفيته وقد اشتعلت فيه ذكريات الأمس سيرة عمه التي تجددت الآن،واقفل عائدا إلى بيته الذي انطفأت شمعته الصغرى ليواسي دموع شموعه الأخرى التي كتبت بين يديه يا أبت هذا يوسف….