حكايا من القرايا.. ” الداية “
عمر عبد الرحمن نمر | جنين – فلسطين
قبل القابلات القانونيات، وأقسام الولادة في المستشفيات، وقبل المختبرات التي تكشف عن صحة الجنين وأحواله… قبل التقنيات الطبية كلها كانت ” الداية “.
الداية هي التي تستقبل الأطفال قبل صرخة البكاء الأولى… وهي التي تعنى بالوالدة وتساعدها على الوضع، وتعنى بالوليد بعد ذلك… تحمله وتحمّمه، وترشه بالملح حتى يصلب جسمه ويقوى، ثم تقمطه، فهي كسيارة الإسعاف تحت الطلب في كل لحظة… نهاراً وليلاً… صيفاً وشتاءً… مهمتها إنسانية…
من الشخصيات الاعتبارية في البلدة، (دايت) أجيالاً وأجيالاً… فهي التي ربما ولّدت الأب والابن، وبشّرت بقدومهما إلى هذه الحياة… تحمل حقيبتها وفيها عدّتها البسيطة، وتمشي خلف من ناداها، وطلب منها معونة أهل بيته…
الداية أم محمود، تمتلك مهارات اجتماعية رائعة، فلسانها حلو، ولطفها مع الناس حلو أيضا، لا تتفوه إلا بالحسن من الألفاظ، علاوة على أنها تمتلك مهارات أخرى توظفها، فهي مجبّرة الكسور، تصنع جبيرتها من البيض والصابون، وتلفّها أياماً فإذا اليد أو الرجل قد انجبرت… وهي صاحبة ضرب كاسات الهوا، تشعل الورقة في الكاس وتطبعه على جلد الظهر، فيمتص الآلام والأوجاع ويزيلها… وهي التي تخرّج على المعيون والمحسود، وتطرد العين الفاسدة من مكمنها… وهي صانعة المكاوي، حيث تكوي محل الألم وتزيله…
ما شاء الله! إنها تعمل ليل نهار، وزنّارها امتلأ بالمصاري، وعنقها بالقلائد، ويداها بالأساور، وفي أصابعها أكثر من خاتم… نمليّتها ملآى بالحلويات والسكاكر بأنواعها المختلفة… ما شاء الله! إنها مهنة تجلب لها الخير، لا أحد عيّنها في هذا المنصب، ولا سلطة أوكلتها أن تكون داية، وحتى منافَستها صعبة، إذ لا يجرأ أحد أن يفري فريها… لذا لا سلطة ولا وزارة تستطيع أن تقاعدها أو تعزلها، لا يعزلها عن مهنتها إلا قرارها، وعجزها، وشيخوختها…
أم محمود كريمة، تفتح يديها وتجود بالمال لأرملة تعيل صغارها، أو طالب علم انكسر عليه قسط، أو مديون ليفكّ دينه، وكل هذا لا يشفع لها من مسبّات الناس وشتائمهم لها، فكانت تسمع الأم وهي تتعارك مع ابنها، وتقول ” الله يلعن الداية اللي بشّرت فيك” فترد الحزينة في سرها ” الله يسامحك يا رب، لا دخل للداية في تربية ابنك، الحق عليك في التربية”.
قالوا لها هذا الحمار عالٍ وستقعين عنه يا أم محمود، سيدبّك يا حجة، لكنها لم ترعوِ، اشترته بثمن غالٍ، واتخذته وسيلة مواصلات، تضع حقيبتها في خرجه، وتصفه على حجر عالٍ، وتقفز على ظهره… في ولادة السعيد الجابر، استدعوا خبيرة الولادة، كانت الطريق موحلة، والطقس بارداً، قفزت على ظهر حمارها، مشى خطوات وتزحلق الحزين، فوقع، ووقعت… انكسرت رجل الحمار، وأصبح معاقاً لا يقوى على المشي، وانكسر حوض الداية، كانت تتألم وتصيح… وحالتها تسوء كل يوم، بعد أيام أخذ الله وداعتها… لكن الحمار شفي، وورثه محمود ابن الداية… وظل الناس يتشاءمون من سعيد الجابر، واتهموه أنه سبب وقوع الحجة، فكانوا يلقبونه ” بالسعيد المتعوس”… رحم الله أم محمود، فقد بشّرت بولادتنا جميعاً… لكنها لم تحظَ بالبشارة في ولادة سعيد الجابر، فولد متعوساً، وعاش نحساً متعوساً…