حكايا من القرايا.. ” عزومة من الآخر “

عمر عبد الرحمن نمر | جنين – فلسطين

حدَّث صديقي فقال:
كنت أعمل مع صديق لي في ورشة واحدة، كنت عاملاً في ورشة البناء، وكان معلماً فناناً يتقن تنفيذ المرسوم على الخريطة، ويتقن تسيير العمل، وتوزيع العمال كل صباح تبعاً لاحتياجات العمل، ولهذا نجحت المشاريع التي استلمها، وأحبه عماله، ومن تواصل معه من شركات، لكن صاحب العمل كان يحبه حباً جماً.
في بيت كنّا نبنيه كالقصر لأحد الأثرياء الفلسطينيين المغتربين في أمريكا، كنّا نحو ستة عمال، ومعلمنا أبو حسن، والجو قائظ وحار جداً، كأن الدنيا كانت (تحاتشي حالها الحال من شدة الحرارة) كنا نجبل الباطون باليد، ونصبّ أعمدة خارجية، والعرق يتصبّب منّا، و(هات لحّق علينا ميْ)… عطش شديد لازمنا… أشفق علينا أبو حسن في الثانية عشرة، ودعانا إلى استراحة استثنائية مدة ساعة… علّ عرقنا يبوخ… ودمنا يهدأ، وحرارة أجسادنا تنزل قليلاً…
شعرت وأنا مستلقٍ بين شباك وباب، كأن مجرى هواء تكّون، حمل في طياته نسيماً عليلاً… (استرخى) بدني وغفوت… لا أدري كم من الوقت غفوت، قبل أن أسمع همس (أبو حسن) في أذني، وأشعر بيده تلكزني بهدوء… أفقت من نومي، قال: اسمع، إن معلمنا الكبير، أبو جمال (صاحب العمل) يريد أن يستضيفنا (أنا وأنت) في بيته هذه الليلة، وسننام في بيته أيضاً… وأنا وأنت سنذهب الآن إلى تلفون المختار في هذه القرية، لمخابرة البلد، وإعلام عيالك وعيالي بالخبر، خوف أن ينشغلوا علينا. وبالفعل، رحّب المختار بنا، وطلب لنا مركز الاتصال في الدهمانية، وعندما وصل الدهمانية، طلب مختار بلدة صويرة، وتحدث معه المعلم أبو حسن، وطلب منه إخبار العائلتين بأنهما سينامان (برّا )هذه الليلة فلا داعي للقلق…
في الثالثة بعد الظهر، انتهينا من العمل، وغيّرنا ملابس العمل، بأخرى نظيفة، وانصرف عمال الورشة، وبقيت وأبو حسن ننتظر سيارة (أبو جمال)، بعد ربع ساعة أتتنا سيارة فارهة، استقليناها، رحب بنا السائق، وانطلقنا إلى بلدة (أبو جمال) كي نتضيّف… ياه استقبلتنا حديقة غناء، فيها من الأزهار والورود والأثمار الشيء الكثير، وبين ممراتها كان أبو جمال يرحب بنا… ما أحلى ملقى الرجل (الله يسعده ويوفقه)، ودخلنا القصر، تحتار فيه أين توجه بصرك (المعطي ما هو بخيل)، الزوايا رائعة، الرخام جميل، القعدات رائعة، البرندات والنوافذ المطلة… والأثاث، كل ذلك يتحدث عن النعمة التي يعيش فيها أبو جمال… وفي غرفة الضيوف، فوجئت بوجود أربعة ضيوف آخرين… سلمنا عليهم، وجلسنا (نسولف)، وأخذنا على بعضنا بعضاً كثيراً (تعودنا، وكسرنا الحواجز)، دعانا أبو جمال لأخذ (دوش)، رفضنا في البداية، ثم قبلنا، وبعد (الدوش) كانت دشداشة مخصصة لكل منا بانتظاره…
اقترح أحد الضيوف، أن نصلي المغرب على سطح القصر، فالجو هناك أبرد، والمناظر التي يمكن أن نراها خلابة، فعلاً (لم نكذّب خبراً) صلينا المغرب على السطح، وبعد الصلاة لم يقصّر أبو جمال، فقد أعدّ لنا مائدة فاخرة (ونحن ما قصرنا بالأكل، كنا تعبين وجوعى) وكذلك الآخرون، تبع الوجبة، صوانٍ من الفاكهة متنوعة المذاق، وما قصّر الجميع، ثم الحلوى، فالعصائر، ناهيك عن الشاي والقهوة، وأرجيلة لاثنين من الضيوف… وتناثرت السواليف من هنا وهناك… والنكات والضحك…( ليلة سعيدا والقمر يتعلل)… وهاجمني النعاس، أدرك أبو جمال ذلك، فهيأ لي مكاناً للنوم، فرَشَهُ في زاوية من زوايا السطح، ونمت… نمت…
سمعت صوتاً (آخ… آخ) لم آخذ وأعطي، فكرت أنني في حلم، تابعت نومي، وإذ بالصوت يقوى، ويمتد (آخ… آخ) فرفكت عينيّ، ونظرت وإذ المفاجأة… مفاجأة هائلة… أبو حسن، وقد تحلق أربعة عليه، يضربونه بالتناوب، هذا يضرب (بوكساً)، فيصيح الحزين، والثاني (تشماداً)، والثالث صفعة وهكذا… والحزين يصيح (آخ… آخ)، وأبو جمال يتمتم بكلمات لم أفهمها… صحت بهم مدافعاً عن (زلمتي): ما هذا؟ ماذا تفعلون؟ شو بتساووا؟ وقفت جلسة التعذيب، وضحك المعذِّبون، وقال أحدهم: (ما تخاف… نام… واستريح…) – لكنكم تضربونه قلت، قال: لا بأس، (إنت بس نام)… صحت بأبي حسن، سألته: شو أبو حسن؟ ابتسم الحزين، وقال: لا، لا شيء (لا تخاف، نام واهدأ)…
قلت: إذا هو راضي بهذا الحال (يا داخل بين البصلة وقشرتها)، نمت… وفي الصباح الباكر ذهبت مع أبي حسن إلى الورشة، ولم نناقش ما حدث ليلاً… ولم ينبس أحدنا ببنت شفه… بعد ستة أشهر، اكتشفت أن الرجال الأربعة كانوا من المختصين بطرد الجنّ والأرواح الشريرة من أجساد الناس، وكانوا ليلتها يضربون الجنّ المختبىء في جسد الحزين، حتى يتسنى له أن يخلّف الأولاد، فهو عقيم بسبب الجنّ الذي يتلبسه، وهم يخرجون الجنّ، ويعالجون عقم الرجل!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى