أهَالينا
محمد فيض خالد
كَغيرهَا من قُرى وعِزب الرِّيف تسمّت باسمِ وجيه من الوجَهاءِ ، “عزبة حسني” هي الأقربُ عن جميعِ الأسماءِ، بعفويةٍ سألت ذاتَ أصيلٍ عمي عميد العائلة، شيخ طاعن في السّنِّ ، ارتسمت فوقَ ملامحهِ الجَادة سيما الوقار والدِّيانة:” تُرى لمّا تسمّت بلدنا بهذا الاسم؟!”، نَظَرَ طوَيلا في الفَراغِ المُمَدّد فوقَ شواشي الذرة، تلوّنت جبهته ببَريقِ الذِّكرى، امسَكَ عكازه ودكّ جذع نخلة قديم ، طالعني مأخوذًا وقد توهجت وجنتاه: ” عزبة حسني، كانت مِلكا لحسني بيه ،. قالوا كان حكمدار المنيا أيام زمان “، رُفع عنه روعه وعَادَ ساكِنا تترقرق في عينيهِ ذكرى أمسه الغَابر، انعزل أهالينا في زمامٍ ضيّق، يطفح كُلّ شيء بالمعاناةِ والفقر، لكن أثرا من الرَّوعة يخالطهم ، تجده ممزوجا في صُفرةِ وجوه الرِّجال، بأجسادٍ ممشوقة، نحتتها انحناءة ظهورهم تزحَف خَلفَ الفؤوسِ؛ تقضم شفاه الأرض من مَشرقِ الشّمس حتّى المغيبِ ، وسُمرة الصّبايا في حِشمة القروي السّاذج تتمشى في وجوههن، طافحة بالإنوثةِ والفتنة.
يتغزّلُ “حسن سلامة” في أهلها شامخا بأنفهِ:” بلدنا أحسن بلد تحت قبة السّما، ورجالتها جدعان”، لكنه الظلام عدوهم وعدو أسلافهم، لعنوه ولعنوا فقرهم الذي أوحَلهم فيه، لا تزال تُغريهم حكايات ” أبوزيد العايق” عن البَندرِ، ينفرج فمه عن ابتسامةٍ حلوة: “هناك لا وحل ولا طين ، ولا هباب لمبة الجاز، عيش القمح السخن زي الفطير “، وجدوا في كلامهِ ترضيةً وسكينة حتى وإن استثقلوا دمه، انقطعت أخباره سنين طوال، قالوا إنّه يعيشُ في حَارةٍ ” الغوازي” خَلفَ مصنع السِّكر، طبالا في فرقةِ ” مكاسب” ، عَادَ ليرد اعتباره مُترفا يرفلُ في ثيابهِ البيض ، تبرقُ ساعته الذهبية وسط الحُقولِ ، تزهو لاسته الحرير فوقَ كتفه المكتنز ، يغرِق بعلب السجائر ” البلمونت” الكُلّ ، تُخيم رائحة ” الكولونيا ” فوق عطن الرطوبة المنبعثة من خَلفِ الجدران ، بالغَ في إنفاقه الحدّ ، يُعطي عطية من لا يخشى الفقر ، لا يجرؤ أحد أن يسأله عن صَنعوتهِ ،وإن تغَامروا تَفيضُ صدورهم حِقدا على ضص زلؤ اذاب الصُّعلوكِ ، الذي عَادَ يتبختر في أبهةٍ تُلجم الألسن، يقدِّس فقراء بلدنا أبطالهم ، يجدوا معهم الخَلاص ، لايزال ” عبدالناصر ” تعويذة الفقير التي تطرد عنه مآسي الحياة ، يتمطّى ” محروس الدقرم” قائلا : ” كَسر أنف الأمريكان وبنىَ السَّد العالي ، هينور الدنيا يخليها جنة ستأتينا الكهربا يوما ما”، اعتدل ” مسعود أبو حطب ” قالَ بصوتٍ ملؤه الثّقة:” شاهدت الجرارات تحمل الأعمدة وتسير جنوبا على جِسرِ المحيط ” ، طالت أيادي الغدر ” السادات ” ليلتئذٍ هَدرت الصُّدور بالحُزنِ ، وانسكب الدّمع من مآقي أبناء الطين، انفجرت ينابيع الحُزن فوارة تهدرُ كماءِ التُّرع وقت ” الدَّميرة”، تربّعَ الشيخ ” فواز القط ” فوقَ المصطَبةِ يَكرُّ حبات مسبحتهِ في تجلي، حَلَفَ يمينا مُغَلَّظة بأنّ ” السادات ” من أولياء الله الصالحين :” ألم ينصره الله على اليَهودِ، ومن انتصر على اليهَودِ غيَر النَّبّي محمد وأصحابه؟! “، استَفزَ حديثه ” عبدالعزيز الترامسي” بعدَ غفوة المساء ، هَبّ من رقدتهِ ، لا يزال طعم النَّوم يُداعبُ جفونه، مَسَحَ شاربه الأشيب المتهدلُ ، رمى السّامر المنصوب بنظرةٍ رخوة ، قائلا في ثقةٍ:” هُمّ طخّوا السادات من هنا وراحوا كلبشوا عبدالناصر من هنا ” سَادَ صمت صارخ ، تَوهجت أثناءه عرائس الظلام ، تتراقص منبعثة من لمبات الجَاز المتناثرة في الدَّربِِ، ابتلَعَ السّكون الأخرس الأفق المُتطامن في وحشتهِ ، قبل أن تتصايح ديوك الفجر الكاذب ، إيذانا بانبلاجِ الصُّبح ، لحظات وأرسل النّهار رسله تتلألأ ابتسامتهم الرّمادية التي تسبق الميلاد .